جارموش يفتتح "كانّ 2019": رسائل سينمائية

15 مايو 2019
يعود جارموش إلى المهرجان بعد 3 أعوام(فوك كان/فيلم ماجيك)
+ الخط -
افتُتحت، أمس الثلاثاء، الدورة الـ72 لمهرجان "كانّ" السينمائي، بـ"الموتى لا يموتون" للأميركي جيم جارموش، المُشارك في المسابقة الرسمية مع 20 فيلمًا. ويعود جارموش إلى المهرجان بعد 3 أعوام، عندما شارك في المسابقة الرسمية أيضًا بـ"باترسون" (2016)، كما عُرِض له حينها، لكن خارج المسابقة، فيلمٌ وثائقي بعنوان Gimme Danger.

مع جديده، يسعى جارموش إلى "السعفة الذهبية"، التي لم يحصل عليها بعد، وفي حال فوزه بها يُضيفها إلى جائزتين نالهما في المهرجان نفسه، هما "الكاميرا الذهبية" لأفضل أول عمل عن "أغرب من الجنة" (1984)، والجائزة الكبرى عن "ورود محطّمة" (2005).

ينتمي "الموتى لا يموتون" إلى أفلام مصّاصي الدماء، أو "زومبي"، وهو الثاني له في هذا النوع، بعد "العشّاق فقط يظلّون أحياء" (2013). كعادته، وإنْ يلجأ إلى نوعٍ مُستهلك سينمائيًا، أو يُعتَبر تجاريًا، أو لا يحمل قيمًا فنية أو رؤى فلسفية أو عمقًا يتجاوز السطح، لا بدّ وأن يأتي فيلمه مُغايرًا. والمُغاير هنا غير مقصود بحدّ ذاته، أو مختلف بنيّة الاختلاف فقط. فهناك أصالة وعمق ورؤية فلسفية، وانشغال بهمّ كونيّ يطرحه جارموش بأسلوبه الخاص في جديده هذا.

Instagram Post

في خضمّ أفلام "زومبي"، يُدرك جارموش حدود النوع جيدًا. يعرف أبعاده وسقطاته وأنماطه المُستهكلة، وما هو مُنفر ومُحبَّب. ربما يكون الفيلم أقلّ إبداعًا فنيًا مُفارقًا للسائد، المعتاد في بدايات سينماه، صورةً وتكوينًا وحوارًا وشخصيات. مع ذلك، بصمته الفنية واضحة، بدءًا من السيناريو (كتبه بمفرده)، وانتهاء بمونتاج مزج فيه لقطات سريعة متلاحقة بأخرى متوسطة الطول، وبلقطات طويلة أيضًا، مع تنوّع الزوايا واختلافها.

بخلاف البصمة الواضحة في السيناريو، وطريقة أداء الشخصيات، وإلقاء المزح الذكية بين حين وآخر، يعمل جيم جارموش مع فريقٍ تعاون معه سابقًا، فوثق بقدارته الفنية، كالممثلين بِلْ موراي وآدم درايفر وتيلدا سوينتن. كما تجلّت بصمته في تطويع هذا النوع، والخروج به عن السائد والمألوف. ففي "الموتى لا يموتون"، لا توجد دماء مجانية، أو آكلو لحوم البشر، أو بَقْر بطون وفقْء عيون، ولا عزف على مشاعر الرعب والمفاجأة، وإثارة للذعر والهلع في المُشاهد. صحيح أن النذر اليسير من هذا مُلاحَظٌ في الفيلم، لكنه ليس هدف جارموش نهائيًا. هناك مواقف وحوارات مُضحكة كثيرة في فيلمٍ يُفترض به أن يكون فيلم رعب، مليئًا بالموتى والضحايا والأشلاء، ومن يُبْعثون أحياء، أو يقومون من قبورهم.

بذكاء ملحوظ، ومن دون الوقوع في المُباشرة أو الخضوع لضغوط هذا النوع السينمائي وشعبويته، يستدرج جارموش إلى منطقة تبدو كأنها مألوفة إلى درجة الملل، ما يدفع إلى التساؤل عن غرض صناعة فيلمه، والعزف على قصص ومواقف ولقطات مُستَهْلكة كثيرًا. ومع اقتراب نهايته بخاتمة متوقعة، كغالبية الأحداث، يتكشَّف تدريجيًا المغزى العام لطرح المخرج، عبر قصّة المدينة الأميركية "سنترفيل"، التي يستيقظ موتاها تدريجيًا من قبورهم، ويهاجمون سكانها، ويأكلون لحومهم، وينهشون أعضاءهم. بهذا، يتناول جارموش العالم الاستلابي المرعب واللايقيني الذي نحياه.

يصنع جيم جارموش من "سنترفيل" نموذجًا مصغرًا من عالمنا، ويلفت الانتباه إلى أن مدينة كبيرة نسبيًا كهذه، لا يعيش فيها بشر كثيرون، بل نفر منهم، استُهلِك النصف الأول من الفيلم في تقديمهم. النماذج المنتقاة، التي يبدو أنها تعيش في البلدة باختيارها، وُجدت بشكلٍ قدري، وهناك تواطؤ بينها على عيش الحياة بشكلٍ روتيني مملّ وبارد. أناس لا يزعج وجودهم أي شيء. اختفاء الحيوانات من مزارعهم أو الطيور من السماء، لا يسترعي انتباههم. كما أنه لم يُثر فضول رجال الشرطة، خصوصًا الثنائي الممتع روني بيترسون (درايفر) وكليف روبرتسون (موراي).

ذكاء جيم جارموش يتجلّى أيضًا في جعل هذه النماذج تنتمي إلى شرائح اجتماعية، أو إلى طبقات ووظائف ومراحل عمرية واهتمامات حياتية متباينة. الأمر نفسه ينطبق على الموتى الذين يستيقظون، ويهاجمون البلدة، ولديهم شراهة لـ"كزاناكس" المخدِّر والـ"واي فاي" والهاتف المحمول والـ"آيباد"، لا تقلّ عن شراهة نهشهم أجساد الأحياء. دلالات كثيرة تحملها الشخصيات عند التمعّن فيها وتفكيكها برويّة.

في النهاية، فإنّ هذه النماذج الرمزية القليلة في "سنترفيل"، أو النموذج الاستعاريّ المُصغر للعالم، تُباد، أو يتمّ نهشها من قبل الموتى، وينجو منها مُختلّ مُتشرّد، يعتزل البلدة منذ عدة أعوام ليعيش في الغابة، ويراقب الحياة والبلدة وسكّانها من بعيد، عبر منظار.



كما ينجو 3 أطفال، يُعتَبرون بمثابة جيل جديد يحمل فكرًا ووعيًا، وقلقًا ـ فكريًا ووجوديًا ـ إزاء الحياة والأرض والتغييرات الطارئة على الكوكب، ودرجة ميل محوره. فزيلدا وينستون (سوينتن) تعتنق الفلسفة الروحية (رُمِّز إليها بالبوذية وبخليط من الـ"زِنْ" وفلسفة آسيا، المغرم بها جارموش)، وهي شخصية خارجة عن السياق الفكري والأدائي التقليدي السائد، ولديها قدرات ومهارات خاصة في سلوكها الحياتي وتفكيرها ومشيتها. شخصية كتلك، وسط الموت الرمزي المُحيط بها، لا مكان لها على الأرض. لذا، لم تكن مُفارقة أو شططًا فنيًا أو حماقة، أن يأتي جارموش لها بمركبة فضائية لانتشالها، أو لشفطها حرفيًا، من بين هؤلاء، إذْ لا مكان لها بينهم.

يُمكن تأويل "الموتى لا يموتون" في أكثر من مستوى، بدءًا من السياسة الأميركية، وانتهاءً بمصير كوكب الأرض، وآدميّة البشر. رسالة نجت من المباشرة والخطابية، بفضل ذكاء مخرج من طينة جيم جارموش.

المساهمون