بين "التجاري" و"المؤلِّف": أين العدالة النقدية؟

14 يونيو 2019
عبدالله فركوس: نجم شبّاك التذاكر لا النقد (فيسبوك)
+ الخط -
يُنظّم المغرب نحو 80 مهرجانا سينمائيا كلّ عام. في حوار "اليوم الوطني للسينما"، المنعقد في مقرّ "المركز السينمائي المغربي" في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، حدّد صبح الله الغازي، رئيس لجنة دعم المهرجانات ماليًا، نقاط ضعف بعض المهرجانات، على النحو التالي: 
أولاً: ضعف وضوح هوية المهرجان، أي لا خط تحريريًا واضحًا له.

ثانيًا: ضعف المحتوى السينمائي للمهرجان، أي وجود أفلام ضعيفة، أو ندوات وأنشطة ذات محتوى غير سينمائي، أو إشراك متحدّثين غير مُمارسين، لا نشاط سينمائيًا لهم. أحيانًا، تكون مدّة حفلتي الافتتاح والختام أطول من الفيلم المعروض فيهما، ويحصل ألا يكون هناك فيلم افتتاح أو ختام.

ثالثًا: لا "منظورية" محلية للمهرجان. غالبية سكّان المدينة، التي ينعقد فيها المهرجان، لا تعلم به. صحافيًا، لا تُكتب مقالات عن الأفلام والندوات. واضحٌ أن رئيس اللجنة لا يعتبر منشورات "فيسبوك" تغطية إعلامية.

يبدو أن نقاط الضعف هذه متّصلة بعضها ببعض، فالثالثة نتيجة طبيعية لما سبق. كيف؟

يقدِّم المهرجان أفلامًا مُصنَّفة بأنها "سينما المؤلِّف"، لذا لا يعلم سكّان المدينة بما يُقدّمه المهرجان. ربما يحضر بعضهم للاستكشاف، فيُصابون بخيبةٍ من "أفلام تجريبية" يُصمِّمها مخرجوها لأنفسهم. تظهر أفلام تجريبية أسلوبيًا، ومحتشمة أخلاقيًا. النتيجة: لا تجد وسائل الإعلام ما تنشره.

تنعقد ندوات ومناقشات على هامش المهرجانات، غالبًا ما يكون المتحدثون فيها هم أنفسهم مبرمجو المهرجانات، الذين يقصون أيّ فيلم ربما يكون جماهيريًا. هذا يجعل الندوات "مونولوغات" بين أصدقاء يتحدّثون فقط، ولا يوفّرون للصحف مادة للنقد. تنتهي الندوات، ولا تخرج فيديوهات، إذْ يعتقد منظّمو المهرجان أنّ ما قيل لا يستحق البثّ. لا يستثمر المهرجان شبكة "إنترنت" لتحقيق الانتشار.

تُعلن مهرجانات أنها تحاول إغلاق صالات سينمائية، بسبب الخسائر المالية. مهرجانات تتجاهل أفلام الجمهور، لأنّ ذوقه "سوقي"، بحسب "سينفيليّ" سبعينيّ. إذا اختلف النقّاد حول فيلمٍ ما، هل يكون نجاحه او فشله جماهيريًا حكمًا وحجّة للفصل بينهم؟

يخجل الناقد من الكتابة عن أفلام يريدها الجمهور، أي المصنّفة تجارية. يحتقر السينما التجارية، ويحزن على إغلاق صالات سينمائية. يخجل من الكتابة عن فيلم تجاريّ، وينتقده شفهيًا، وبسخرية. حين يبحث أحدهم عن ندوات وفي مجلات وكتب سينمائية، صادرة في المغرب، لا يعثر على نصّ عن عبد الله فركوس وسعيد الناصري. هذه لاعدالة نقدية.
في كلّ موسم، يُعرض فيلمٌ لفركوس أو الناصري، فيتصدّر شبّاك التذاكر. جُلّ أفلام هشام العسري لا توزَّع، وإذا وُزِّع فيلمٌ له، لا يصمد أسبوعًا في الصالات. الناقد يكره الربح. هو نصف شيوعي، بينما السينما رأسمالية، لأن كلفتها عالية.

يقول مايكل غارين، المدير العام لـ"إيميجْنايشن" (تأسّست عام 2009، بهدف الاستثمار المالي في إنتاج الأفلام): "ليس هناك فيلم عربي مربح". السبب برأيه؟ "كتابة السيناريوهات أكبر مشكلة. هذه الموهبة هي الأقلّ كفاءة في المنطقة". يقول الموزّع علاء كركوتي إنّهم "لا يُكرِّسون وقتًا كافيًا لتطوير نصوص أفلامهم".

بفضل الدعم والصالات، يُمكن لفيلم كوميدي مغربي أن يكون مُربحًا لمخرجه. "سينما المؤلّف" خسارة اقتصادية مؤكّدة. لذا، المطلوب من سينما يموّلها دافعو الضرائب أن تأخذهم بالاعتبار.
بدأت أكره "سينما المؤلّف" الكئيبة، وأبحث عن فنّ مُتصالح مع الشعب. النخبوية ليست أقلّ بشاعة من الشعبوية. السينما التجارية تموِّل أفلامها من مداخيل الصالات، بينما "سينما المؤلّف" تنتظر نقود المال العام. تُناهض "سينما المؤلّف" كلّ مُتعة سهلة.

في تلك الندوات، لا أحد لا يتحدّث عن أفلام هشام العسري. لا يوجد ناقدٌ مغربيٌّ كتب مقالةً عن أفلام فركوس أو الناصري. بسبب هذا الانفصال، فإنّ المخرج التجاري لا تعنيه آراء النقّاد، فهو حريص على ألاّ يُخالف توقّعات الجمهور. ذات مرة، قدّمت موزّعة حاذقة العرض الأول لفيلم تجاري، ولم تدعُ النقّاد كي "تتلافى شرّهم"، كما قالت. قال موزّع إنّه لا يوزّع فيلمًا يمدحه النقاد المغاربة (كلام الموزّعين الاثنين حاصلٌ في "دردشات" خاصّة).

بالعودة إلى الندوات، فإنّ المُدرَج منها في المهرجانات يتناول مخرجين ماتوا منذ عقود، أو مخرجين لا تُعرض أفلامهم في الصالات. ندوات شفهية لا بصرية. يشعر المتلقّي أنّه لا يعرف الصورة التي تُحلَّل. الحديث عن مخرج ميت مُريح، لكن طلبة السينما والمتفرّجين العاديين يريدون معرفة أفلام معاصريهم. أساتذة عديدون يتحدّثون مُطوّلاً، أمام طلبة الفنون البصرية في أكاديميات مختلفة، عن "مخرج عبقريّ"، وعن قدرته الرمزية التعبيرية في السينما. يُكرّرون أسماءً كثيرة مرّات عديدة، كهيغل وكافكا. مُداخلة مرتجلة، كلّها استطرادات لا تُغطّي تشتّت المحتوى، وغياب المنهج، وانعدام الاستشهاد بلقطات تكون عيّنة للتحليل. الأسوأ متمثّل في كون التناول تراكميًا لا تحليليًا، أي استعراضًا لمعلومات عن "المخرج العبقري"، الذي يُصوّر، وليس عن الفيلم.

بعد خروجهم من الكلية، يبدأ الطلاب بحثهم عن أفلام... "عباس تاركوفسكي".
المساهمون