"شهود بوتين": إدانة سينمائية

11 يوليو 2018
فيتالي مانسكي (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
لن يكون صائبًا التغاضي عن "صدفة" فوز "شهود بوتين" للأوكراني فيتالي مانسكي بالجائزة الكبرى لأفضل فيلم وثائقي، في الدورة الـ53 (29 يونيو/ حزيران ـ 7 يوليو/ تموز 2018) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، قبل ساعات قليلة جدًا على هزيمة المنتخب الروسي في النسخة الـ21 (14 يونيو/ حزيران ـ 15 يوليو/ تموز 2018) لبطولة كأس العالم في كرة القدم، أمام المنتخب الكرواتي 3 ـ 4 بضربات الترجيح، بعد تعادلهما 2 ـ 2 في الوقتين الأصلي والإضافي. فقبيل الهزيمة الرياضية لمنتخب بلدٍ محكومٍ بقبضة الرئيس فلاديمير بوتين، مساء 7 يوليو/ تموز الجاري، يفوز الفيلم الوثائقي الذي يروي مرحلة مهمّة في التاريخ السياسي لرجل المخابرات السوفياتية، في لحظة انتقال السلطة السياسية إليه من سلفه بوريس يلتسن. 

و"الصدفة" هذه تُعتَبر ضربتين اثنتين يتعرّض لهما فلاديمير بوتين في ساعاتٍ قليلة، تتمثّلان بهزيمة رياضية أمام كرواتيا، وفوز سينمائي لفيلمٍ يتضمَّن إدانة (مبطّنة أو مكشوفة لا فرق كبيرًا بينهما، فهذا غير مهمّ البتّة إزاء أهمية الفيلم موضوعًا ومعالجة واشتغالاً سينمائيًا) لسلوكِ رجلٍ سيحكم بلده بالقمع والتسلّط، وسيتحالف مع ديكتاتوريين يمارسون أفظع الجرائم بحق شعوبهم. ورغم أن الوثائقي لن يذهب بعيدًا في الإدانة والانتقاد، بقدر ما يُحافظ على سلاسةٍ بصرية في تقديم أحداثٍ ووقائع تكشف جانبًا في شخصية بوتين تميل إلى تدمير الآخرين؛ إلا أن فيتالي مانسكي يجعل الكاميرا الصغيرة عينًا تراقب مسارًا وتتابع سياقات، وعدسةً تلاحق أشخاصًا وتكشف حقائق، وأداةً تنبش بعض السيرة كي تفضح بعض السلوك.

هذا معقودٌ على اختبار سينمائي ذاتي محض، إذْ يبدأ "شهود بوتين" من داخل المنزل العائلي لفيتالي مانسكي. الكاميرا تلاحق أفراد العائلة ليلة رأس السنة الميلادية 1999 ـ 2000. روسيا مرتبكة في ظلّ رئاسةِ سياسيٍّ ضعيف الشخصية، مُتعَب ومُدمن على الكحول. الحلّ الوحيد؟ تسليم البلد إلى شخص "غير معروف" كثيرًا حينها في المشهد العام، فعمله سرّي وأمني، وله بعض النفوذ في مؤسّسات ما. العائليّ والسياسيّ حاضران بأشكالٍ مختلفة. فالعائلي أوضح مع مانسكي ويلتسن، بينما السياسي العام طاغٍ مع بوتين. وبينما "يُطارد" السينمائيّ أفراد عائلته طارحًا عليهم أسئلة عن البلد وعن أحوالهم ويومياتهم، أو ملتقطًا ما يفعلون؛ فإن يلتسن محاطٌ بزوجة وابنة وحفيد (ومعاونين) في لحظات عديدة لحضوره البصري أمام الكاميرا. أما بوتين فـ"وحيدٌ" تمامًا، والزوجة تظهر في لقطات قليلة جدّا (ترافقه للتصويت أو تبقى معه في غرفة متابعة الانتخابات من دون أي كلام)، بينما معاونوه العديدون سينفضّون عنه لاحقًا.



أما الإدانة، فمتمثّلة في مظاهر مختلفة: زيارة بوتين لمُدرِّسته فيرا دْميتريافنا في منزلها. هي أول مؤثّر فعليّ في تكوين شخصيته، أيام الدراسة الأولى. زوجها، أناتولي بوريسوفيتش، سيقول له إن الدولة كالحديقة "عليك أن تُشذّبها بـ"سحق" الحشائش كي يظهر فيها شيء يستحق العناية به". فيُجيبه بوتين: "سنفعل ذلك". هذا كافٍ لتبيان حالة متلائمة ورغبات بوتين. فهو لن يردّ على اتصال هاتفي من يلتسن بُعيد صدور نتائج الانتخابات، ولن يتصل به أبدًا، رغم أن يلتسن مُطالِبٌ به وداعم له. مجموعة المعاونين معه في الحملة الانتخابية تضم أشخاصًا عديدين بينهم 7 سيُغادرون بوتين بعد وقتٍ قليل على انتخابه، وينضمّون إلى المعارضة. لن يُحدِّد فيتالي مانسكي أسباب الانتقال، مكتفيًا بتقديم معلومات عن وظائفهم ومناصبهم وعلاقاتهم به، ومُضيفًا إليها جملة تكاد تكون واحدة تفيد بانتقالهم إلى المعارضة.

هناك أيضًا مسألة النشيد الوطني، ومطلب بوتين لتغييره. يشعر الرئيس الروسي أنه "غير واضح" في تبرير فعلته في المرة الأولى أمام كاميرا فيتالي مانسكي، فيستدعيه ليشرح له دافعه إلى ذلك، من دون "الاستماع" إلى عدم موافقة السينمائي على رغبة السياسي، الذي لن يكترث أبدًا بموقف الأول. فلديه سينمائيٌّ آخر يُشرف على الأوركسترا التي تتمرّن على النشيد الجديد: نيكيتا ميخالكوف، ووالده سيرغي كاتب الأناشيد المعروف لدى سلطات الاتحاد السوفياتي السابق.

بعيدًا عن السرد السياسي وتفاصيله المتشعّبة في حالات وحكايات مختلفة، يمتلك "شهود بوتين" حساسية سينمائية تتمثّل بكاميرا صغيرة قادرة على التوغّل في أمكنة و"الاختفاء" بيد المخرج المتمكّن من جعلها عينًا تتلصّص على كل شيء: في المنزل العائلي ومقرات الدولة وغرف الحملات الانتخابية ومنازل المسوؤلين ولقاءات ميخائيل غورباتشيف مثلاً مع جماعته. التوازن بين مَشاهد مختلفة يصنعه توليف (غونتا إيكاري) يُساهم في لعبة فيتالي مانسكي: تقديم المشهد مع تعليقات عادية، بينما الصُور والتوليف والموسيقى (كارليس أوزانس) تتكفّل كلّها بالتفسير والتعبير والبوح والتنبيه والإشارة و... الإدانة أيضًا.
المساهمون