لا يمتعض سليمان من الرد على الذين يلحّون في السؤال عن رمزية هذا المشهد، وهل كانوا موفقين في فك "الشيفرة"، أو إحالة الصور إلى مرجعيتها الفلسطينية الراسخة في رؤوسهم؟
في فيلمه الأخير "إن شئت كما في السماء" كان افتتاح الدورة السابعة من "مهرجان أجيال السينمائي" في الدوحة مساء الإثنين، ضمن رصيد التكريمات التي حازها، بدءاً بمهرجان "كانّ" 2019 حيث نال تنويهاً خاصاً من لجنة التحكيم، وجائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين في المهرجان.
إيليا سليمان في الفيلم هو الصامت على مدار مائة ودقيقتين، ما عدا عبارة "من الناصرة. أنا فلسطيني" التي قالها لسائق التاكسي في نيويورك.
لكنه يتحرك على قدميه في مجتمع بلاده، ويتلقى بعينيه كلام وتصرفات الجيران والعابرين والغرباء. لوحات كوميدية يمر بها أو تمر به، ولا يضحك، ولا يعبس. يترك غالباً مساحة وجهه صامتة، أي أن اللغة ذات معجم من دم وماء وأفكار داخلية، ترى ملامحها ولا تسمع.
يغادر إيليا سليمان باحثاً عن وطن بديل، إلا أنه يعبر بجسده جغرافيا متعددة، من باريس إلى نيويورك، جميعها لا تسلم من العنف أو ما يقول لـ"العربي الجديد" إنها فلسطين المعولمة".
يضيف: "في أفلامي السابقة كان لدي شعور أكثر بالاستقرار. أن أبقى خارج الصورة أنظر إلى التجربة لا مشاركاً فيها. والآن مع الخراب الذي حاق بالعالم، اهتزت شخصيتي التي كانت خارج الإطار".
عزلة كبرت
حينما تقدم إيليا سليمان في العمر (مواليد 1960) يقول إن العزلة كبرت معه، في مواجهة عالم ينحدر، لافتاً إلى أن شخصيته في الفيلم الأخير تشير إلى هذه العزلة وتوتراتها، وقلقها، والكوميديا التي ترشح منها.
فلسطين، وعولمة، وانفجارات سياسية ومجتمعية تتوالى كالعدوى بين الدول، كيف يمكن أن يتشكل فيلم وفق وصفة إيليا سليمان؟
— Doha Film Institute (@DohaFilm) November 18, 2019
|
يقول "أبحث عن صفر دلالات. صور نقية، شعر صافٍ. لو أنني أكثر إبداعاً، لاشتغلت فيلمي كله بنفس الروح التي كان فيها مشهد العصفور".
يشير المخرج هنا إلى أكثر المشاهد شعبية في فيلمه "إن شئت كما في السماء"، حيث يجلس إلى طاولة يكتب على اللابتوب، بينما العصفور على الطاولة يقفز على لوحة المفاتيح، فيزيحه بظاهر كفه، بنفس الحركة التي نعرفها في الآلة الكاتبة القديمة.
تتكرر الحركة. يدفع العصفور بكفه ويعود للطباعة. يعود العصفور إلى لوحة المفاتيح، وهكذا حتى يقرر أخيراً فتح الشباك، والطلب من العصفور بإصبعه، أن يخرج الآن من بيته.
يضيف سليمان أن الذين قرأوا السيناريو، أحالوا كل المشاهد إلى تفسيرات أرضتهم، ما عدا مشهد العصفور الذي بدا لهم بلا معنى، وما إن رأوه في الفيلم حتى بات المفضل بين المشاهد.
السينما صور
البحث عن المعنى يعاكس رغبة سليمان بأن يقتصد دائماً في الصورة والحوار.
يتساءل "لماذا الكلام، بينما السينما صور؟". أما الصمت فيقول إنه لغة من اللغات، وإن السؤال يجب أن يعكس ويوجه إلى الكم الكبير من الأفلام المبنية على الحوار الاستهلاكي، الأحادي، الموجه إلى متلق كسول معه علبة بوشار. "الحوارات السينمائية، تشتمل على معلومات لا يحتاجها المتلقي، وتستهدف تغييبه عن مشاهدة الصورة"، وفق قوله.
في هذا السياق، لا يوافق إيليا سليمان على أن جمهوره مختلف أو خاص، فيقول: "أنا لا أحدد الجمهور. هناك من يحب أفلام الآكشن ويحب أفلامي. فالحدود ليست واضحة". ويمضي قائلاً: "أول جمهور لي هو أنا".
— Doha Film Institute (@DohaFilm) October 5, 2019
|
تحولات
غير أنه يلاحظ تحولات، يقول إنها لم تتجاوز الملاحظة إلى التحليل. ومن ذلك أن الناس تتناهبهم مواقع التواصل، فتجدهم يتابعون من فيديو دقيقة هنا ليقفزوا إلى دقيقة هناك. هم ذاتهم الذين لا يكملون ديوان شعر. مقابل ذلك، يضيف: "ألاحظ فئة عمرية من 18 سنة إلى ثلاثين تذهب إلى السينما القديمة، قبل سبعة وثمانية عقود".
"رأيت هذا الجيل أمس في دار الأوبرا حيث عرض فيلمي. كانوا يشكلون 70% من الحضور"، يضيف.
على علاقة بهذه الفكرة، يشير سليمان إلى المشهد الختامي من فيلمه "إن شئت كما في السماء". حينما عاد إلى وطنه. من هؤلاء الشباب الذين يرقصون على إيقاع أغنية شبابية؟ إنه- بحسبه- جيل ناشط له تعريف غير جغرافي أبداً لفلسطينيته، بل من التماثل الواسع مع قضايا من لبنان إلى تشيلي.
يتعرض المخرج الفلسطيني لسؤال حول سنوات الغياب بين فيلم وآخر. ورداً على سؤال ماذا تفعل في هذه الفترة؟ يقول: "أكون هائماً لا أعرف ماذا أفعل. مرة أدخل في مزاج الأسئلة الوجودية ومتاهات سؤال أين أعيش؟ ومتى أنهي هذه المهمة؟ وما بين هذه الأسئلة يتولد فيلم جديد".
بلا اتجاه
ووفقاً له، فإن الحياة التي تعيشها بلا اتجاه، تدفعك إلى أن تسأل كل هذه الأسئلة.
في هذه الفترة، يقدم محاضرات متخصصة، ويسجل ملاحظات، ولا يقرر الجلوس إلى طاولة لينجز مهمة فيلم. لكن هذه الحال إن طالت فإن المتاهة الطوعية تتحول إلى ما بعد الملل، أي أن الأسئلة حين تتراكم تسبب الألم أو مزيداً من الضياع، لذلك تأتي لحظة الشغل التي تحمي الروح، وتقول شيئاً بلغة ومفردات حرة قدر الإمكان.
— Ajyal Film Festival (@AjyalFilm) November 18, 2019
|
يبحث إيليا سليمان الصامت طوال الفيلم عن وطن آخر، فيجد أنه يحمل معه فلسطينه، بل إن الآخرين قد يسبقونه ويضعونه في إطار فلسطين التي يريدونها.
بحسب العناوين التي راجت للفيلم ومنها "لا شك أنها الجنة" و "لا بد أنها الجنة"، يقول إن الجنة غير موجودة في عالم يقضي على نفسه.
لذلك، اختار سليمان لما يقول إنها متطلبات الكاتالوغ السينمائي عنوان "إن شئت كما في السماء"، مع أنه يفضل بقاء العنوان كما هو بالإنكليزية It Must Be Heaven.