روجر ديكنز: أنفاس التاريخ وقهر الجغرافيا

05 يونيو 2020
روجر ديكنز وثاني "أوسكار" له عن "1917" (راشيل لونا/وايرايماج/Getty)
+ الخط -
بمناسبة حصوله على "أوسكار" أفضل تصوير، عن عمله في "1917" لسام منديس، في النسخة الـ92 (9 فبراير/ شباط 2020)، هي الثانية له بعد "بلايد رانر 2049" (2018) لدوني فيلّنوف، استعادت منابر عدّة قيمة المصوّر السينمائي البريطاني روجر ديكنز (1949) وقدرته على منافسة مخرجين كبار. تحوّلات فنية ومسارات غنيّة راكمها المُصوّر السينمائي منذ استقراره في أميركا بداية تسعينيات القرن الـ20. فديكنز لا يُطبّق تصوّرات المخرج، ولا يلتزم البناء النصّي للفيلم، بل يشتغل من زاويته التصويرية على إعادة بناء العالم وفق رؤيته أولاً، مُحاولاً تكييفها مع رؤية المخرج. هكذا يضع لمسته في الفيلم، ويترك أشياء أخرى من جسده.

المَتروك والمنسي يُسمّيان "اللامُفكّر به" في الصورة السينمائية، الذي يلعب دوراً كبيراً في تشكيل خطاب الصُّورة وتوجيهها، وصوغ معناها الجمالي وأفقها الفكري. فلسفة "اللقطة المُمتدّة" عنده، الظاهرة منذ خمسينيات القرن الـ20، امتدادٌ لشكل الحياة الحقيقية في فوضاها وعبثيتها وسخريتها. يرفض، بشكلٍ أو بآخر، أن تكون الكاميرا مجرّد آلة تلقتط صُوَراً عدّة، يُعيد المولِّف صوغها في نسق بصري واحد، بل يجعل عين الكاميرا أشرع بتجوّلها بهدوءٍ بين الأفراد، وبربطها بحميمية بمسامهم وأجسادهم ومشاعرهم. في الوقت نفسه، تبتعد عنهم بقوّة لترصد حركة الفرد في الواقع، وتشتبك بقضايا الحرب وآلامها.



عنده، التصوير أحد أهم العلامات المضيئة التي تصنع جماليّات الفيلم، خاصة أنّ لصُوَره علاقة وطيدة بحيثيات الواقع الذي تُصوّره، إذْ تتشكّل كيمياء الصورة لديه من الجسد والواقع والتاريخ والذاكرة، التي تُمتزج كلّها في وحدة بصرية مُركّبة، صانعةً فضاءً متخيّلاً للصُّوَر، تُعبِّر بمُجملها عن مركزية الفرد في مسار التاريخ، وتكثيف اللحظة، وتأجيج الذاكرة بوصفها خزّاناً دلالياً ورمزياً، ما يجعل الفيلم واقعياً، ويُفكّك "ميكانيزمات" اللحظة، ويُراقب المستقبل سينمائياً عبر الحلم. بهذا المفهوم، لا تُصبح الذاكرة فعلاً نوستالجياً، بل تقيم في الحاضر، وتغدو صيرورة لوجود لا ينقطع تأثيره في هذا الحاضر.



في تصويره "الخلاص من شاوشانك" (1994) لفرانك درابونت، ينصاع ديكنز كلّياً لجماليّات السرد ورتابته، بهدف الخضوع لنمطية الحكاية، وجعل الصورة مُلتصقة بالأجساد والأمكنة والفضاءات داخل السجن، وبمسام شخصياته أيضاً، مركّزاً على إشارات الجسد وخطّ الحكي، كاسراً كلّ تقطيع آليّ لصُوَر واقعٍ ربما بدا مُفتعلاً ومُرتبكاً، لحرصه على جعل الصورة رديفةً لمفهوم الحياة في تلقائيتها. مع ذلك، يظلّ نظام الحكاية يوجِّه الصورة، لا العكس. فالمخرج يضغط في كلّ سلّم تصوير أو مشهد على خطّ الحكاية، ما يجعل أسلوبه يبدو رتيباً في انصياع صُوَره لنقل الواقع، وجعلها خرساء تتّسم بالصنمية أمام خيط مُتشعّب للحكاية، يُعلي شأن المكتوب، ويُجمّد الأشياء الجمالية المرئية كلّها، التي تُغني الفيلم على مستوى جماليّات الصورة والتخييل.



هذا باستثناء مشاهد قليلة جداً يشعر المُشاهد معها باعتلائه عرش الصورة، كشأنه في صورته المشهورة في مشهد تحرّر البطل (تيم روبنز) لحظة هروبه ذات ليلة شتائية، خلافاً لأهميّة الصورة و"جينيالوجيا" التاريخ لديه، القائمة في عمله الأخير "1917"، وفيه تلتقي أنفاس التاريخ بقهر الجغرافيا.
دلالات
المساهمون