سينما الانتفاضة اللبنانية: التقاط وقائع أو تشويه حكايات؟

11 نوفمبر 2019
هل تصنع "انتفاضة 17 أكتوبر" سينما لبنانية؟ (حسين بيضون)
+ الخط -
أية افلام يُمكن لسينمائيين لبنانيين إنجازها، مستمدّين مواضيعها من "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019)؟ 
الانتفاضة مستمرّة في ابتكار أشكالٍ سلميّة وعفويّة ومدنيّة، يوما تلو آخر، في مواجهة تنانين المال والطوائف والإعلام والأمن والسياسة والاقتصاد. المنتفضات والمنتفضون يمتلكون حساسية مُدهشة تمكّنهم من اختراع جُملٍ ونكاتٍ وأهازيج و"ردّيات"، فهم غير راغبين في أسلوبٍ آخر؛ ويُظهر طلابٌ جامعيون وتلامذة مدارس ذكاء ووعيا مُثيرين للدهشة، ويمتلكون منطقا في قول وتفكير، بعد وصفهم أعواما مديدة بأنّهم جيل "الآي باد".

منتفضون ومنتفضات يفضحون ويكشفون ويُعرّون طبقة متحكّمة بالبلد وناسه منذ 30 عاما، بالاستناد إلى وثائق وقوانين وتقارير، وبالارتكاز إلى وعي معرفي كبير. سينمائيون عديدون، مخرجون وممثلون وتقنيون ونقّاد، يُشاركون في الانتفاضة، ميدانيا وإعلاميا، عندما تُتاح لهم فرصة التحدّث عبر شاشة تلفزيونية، ويستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، علما أنّ بعضهم يبتكر، هو أيضا، النكتة والسخرية في مُقاربة يوميات المواجهة غير المتكافئة، بين حقّ يُطالب به لبنانيون بشكلٍ سلمي وعفوي ومدني، وأمراء حرب وطوائف ومال وإعلام غير عابئين بحقّ كهذا، لاكتراثهم فقط بمصالح خاصّة بهم، "على حساب" البلد وناسه.

أما إنجاز الأفلام، فأمر يحتاج إلى وقت. الغليان الحاصل يحجب رؤية هادئة، يُفترَض بها أنْ تؤدّي إلى سينما روائية. التوثيق فعلٌ يومي، يبدأ بالتصوير الهادف إلى التقاط اللحظة، بانفعالاتها ومساراتها وتخبّطاتها العفوية، استعدادا لتحويل الصُور إلى أفلامٍ وثائقية، في مرحلة لاحقة يُتوقَّع ألا تكون بعيدة، رغم أنّ الفيلم الوثائقي يحتاج، هو أيضا، إلى وقتٍ، فاشتغالات وثائقية لبنانية عديدة تنبثق من جهدٍ مديد في البحث والتنقيب والسؤال، التي تمهّد لإنجاز الفيلم.

هذا عاديّ. سينمائيون لبنانيون يلتقطون لحظات مصيرية كثيرة، منذ النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990). يتابعون مساراتٍ وتحولاتٍ واجتهاداتٍ. يُصوّرون خرابا وأنقاضا وعمليات إعادة إعمار. يخترقون جدران الصمت التي تسيّج ملفات معلّقة، وأسئلة ملتبسة، وخفايا ممنوعٌ الاقتراب منها. يوثّقون، فالتوثيق البصري ضروري وأساسي، يُفيد لاحقا في تحقيق المطلوب أو المرغوب في تحقيقه. صُور كثيرة تبقى في أرشيف الذاكرة، وهذا عادي أيضا. سينمائيون لبنانيون ينخرطون في "انتفاضة 17 أكتوبر"، كتابة وتعليقا وحوارا وتصويرا. يُشاركون في تظاهرات واعتصامات وحلقات نقاش، وفي حفلاتٍ تؤكّد أن للانتفاضة اللبنانية حيويتها المرحة والجميلة في أساليبها. ورغم أن نقّادا لبنانيين "مُنهمكون" في كتابات سينمائية بحتة، يبتعدون بها عن غليان شعبي لأسبابٍ "مجهولة"، إلا أنّ سينمائيين كثيرين يرفعون الصوت عاليا، تصريحا أو نقاشا أو عملا ميدانيا، ويساهمون مع فنانين آخرين في تفعيل الحيوية الغنائية والموسيقية، المرافقة لتحرّكات ميدانية مختلفة.

سؤال السينما وعلاقتها بـ"انتفاضة 17 أكتوبر" مُلحّ، رغم رؤية البعض أنّ طرحه باكر. فالأولوية لبهاء انتفاضة، تتمكّن من تحصين نفسها إزاء كلّ عنف أو فوضى أو فلتان، مع أنّ للشتيمة دورا أساسيا في بلورة خطاب يواجه نظاما متحكّما بالبلد وناسه، إلى درجة إفقار الناس وتحطيم البلد. والأولوية لعفوية التظاهر، التي تبدو كأنّها غير عفوية، لشدّة انضباطها وجمال صوتها وحماسة المشاركين فيها. والقول بأنّها "غير عفوية"، بل "تبدو كأنّها" هكذا، نابعٌ من شدّة عفويتها، وليس من تحريضٍ بائسٍ لتنانين، ولأتباعها وأزلامها، يُفيد (التحريض) أنّ الانتفاضة نتاج تدخّلات من هنا وهناك، فمنطق كهذا يُريد تفكيكها وتزوير نقائها وتشويه حيويتها وجمالها وبساطتها وصدقها، فيفشل في تحقيق مُراده.

لكن، هل تتمكّن السينما، الوثائقية والروائية، من أن تكون أفلامها مرايا تعكس هذا كلّه لاحقا؟
يتخوّف سينمائيون ممّا ستُسفر عنه الانتفاضة سينمائيا. يقولون ضمنا أنّ مخرجين يعتادون اقتناص فرص كهذه، لإنجاز أفلام غير سوية، يُسوّقونها في الخارج فيلتقطها الخارج ويجعلها عنوانا لحدثٍ كبير كهذا، من دون بحثٍ أو استقصاء أو معرفة. يخشون أنْ تُنتَج أفلامٌ غير لائقة بانتفاضة كهذه، خصوصا أنْ مخرجين، يُشاركون فيها ميدانيا، معروفون بتسطيحهم مسائل جوهرية وعميقة وأساسية، إما لسذاجة تفكير، أو لغباء ثقافي، أو لجهلٍ فكري، أو لقصد مشبوه. يشعرون أن عاملين في المجال السينمائي اللبناني يستعدّون لتحقيق أفلامٍ عن انتفاضة غير مشاركين فيها، وغير متحمّسين لها، إما لعدم موافقتهم على شعاراتها، وإما لارتباطهم بقوى نافذة في النظام المتحكّم بالبلد وناسه، وبأقطابٍ هم سبب إفلاس البلد وانهياره. وهؤلاء خطرون، لأن لديهم إمكانيات لإنجاز أفلامٍ ربما ستشوِّه أو تزوِّر أو تغاير وقائع وحقائق.

أهذا استباق لمسائل كهذه، ربما لن تحدث؟
تجارب سابقة تكشف أنّ هذا قابلٌ للحصول. مسائل لبنانية، في الاجتماع والعلاقات والتفاصيل اليومية الغارقة في أزمات ومصاعب، تتحوّل في أفلامٍ لبنانية إلى تخريبٍ فعليّ لوقائع وحكايات. هذا لا علاقة له بموقف السينمائي أو برأيه، بل بمخالفة وقائع وتبديل حكايات. مخرجون لبنانيون عديدون يتغاضون كلّيا عن حدث أو مصيبة أو مأزق، في وقتٍ سابق لـ"انتفاضة 17 أكتوبر"، وهذا حقّ لهم، فيُسرفون في تحقيق أفلامٍ يظنّون أنها سينمائية، بينما هي تحتاج إلى تأهيل سينمائيّ جذري. وبدلاً من تواضع، يُنظّرون ويتباهون بأنّ أفلامهم "تصنع" حركة سينمائية لبنانية، بينما يتجاهلون كلّيا وقائع العيش على جمر الحياة اليومية، في بلدٍ منذور لبطش التنانين وعنفها. وتجاهلهم منبثقٌ من خنوعٍ لسلطة، يعتبرونهما (الخنوع والسلطة معا) حماية لهم ولمصالحهم. وإذْ يحقّ لهؤلاء تحقيق ما يبغونه من أفلامٍ، شرط أن تكون الأفلام سينمائية، إلا أنّ تغاضيهم المطلق، وفيه شيءٌ من الاستخفاف أو التعالي، عن وقائع الخراب اللبناني، المؤدّي إلى "انتفاضة 17 أكتوبر"، وعن الانتفاضة نفسها أيضا، جزءٌ من تواطؤ خبيث مع تنانين المال والسياسة والاقتصاد والإعلام.

لكن السينما اللبنانية في مكانٍ آخر. هي قادرة على حماية نتاجاتها من بؤس متطفّلين، وعلى الانتصار للغة الصورة في مواجهة التسطيح والجهل والخنوع، وعلى صُنع سينما، وإنْ تكن مواضيعها وحكاياتها وتفاصيلها غير معنيّة بحدث أو واقع أو تفصيل، فالمواضيع كثيرة، وما على السينمائيين إلا اختيار المُتاسب لهم. أما السينما التي تعاين واقعا وتواجه تنانين، بإنجازها أفلاما تقول وتكشف وتفضح وتعرّي، فهي جزء من اشتغالٍ متكامل.

ولعلّ "انتفاضة 17 أكتوبر" تُشارك في هذا كلّه، فسينمائيون لبنانيون عديدون متنبّهون ومدركون وعارفون، كما أنهم يمتلكون جمال صورة وبهاء لغتها في التوثيق والسرد.
المساهمون