"شعورٌ أكبر من الحب": جمالية الوثائقي

02 ابريل 2018
من "شعور أكبر من الحب" (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
يُشكِّل "شعورٌ أكبر من الحب" (لبنان، 2017، 99 د.)، الوثائقي الأول للّبنانية ماري جرمانوس سابا ـ الذي يُعرض في الدورة الـ14 (9 ـ 16 إبريل/نيسان 2018) لتظاهرة "شاشات الواقع" في بيروت ـ مدخلاً إلى تاريخٍ وذاكرة وعلاقات واجتماعٍ، تتقاطع كلّها مع وقائع لبنانية في الإقطاع السياسي والتسلّط الطائفي ـ الاقتصادي ـ الحزبي، والارتباك اليومي في أحوال مزارعين وعاملين. مدخلٌ وثائقي يرتكز على جمالية الصورة السينمائية، ويوثّق أحداثًا ماضية عبر استعادة بعض المُصوَّر عنها، أو من خلال رحلة شخصية للمخرجة الشابّة في أزقّة الماضي، ومتاهاته وأسئلته المعلّقة. 

والتوثيق، إذْ يتّخذ من السرد الحكائي المشبع بالصُوَر والابتكار المتخيّل لحالاتٍ آنيّة أحيانًا، يواجِه النسيان كي يُعيد سرد فصولٍ منه عبر خيبات الآنيّ ومشاغله واضطراباته، ويخترق المبطّن (أو يحاول اختراق بعض المبطّن على الأقلّ) كي ينفض غبار الزمن عنه، كاشفًا شيئًا من حيويته وحراكه وصدْماته ومَواجِع ناسه. فالمتتاليات البصرية، إنْ تستعيد ماضيًا أو تنشغل بحاضرٍ، تروي ـ بلغة الصورة ومفرداتها وأدواتها ومعانيها وإيحاءاتها ـ تاريخًا حافلاً بالتحدّيات اللبنانية، عبر مزارعي التبغ وعمّال "معمل غندور"، الذين يخوضون صدامات عديدة لانتزاع حقوقٍ أساسية لهم في العمل والراتب والعيش اليومي.

ذلك أن المزارعين الجنوبيين يُدركون قسوة الابتزاز الإقطاعي، المتنوّعة أشكاله بين السياسة والعائلات المتحكّمة بأحوال الجغرافيا والاجتماع والاقتصاد، بالإضافة إلى مساوئ السلطات اللبنانية وأفعالها المتواطئة مع السلطات العائلية الإقطاعية والحزبية؛ ويسعون إلى شيء معقول من عيشٍ وسكينة يكادان يكونان مفقودين. والمشتغلون في "معمل غندور" لن تكون أحوالهم أفضل، ما يستدعي اشتغالاً دؤوبًا لرصّ الصفوف العمالية، ولتضافر الجهود الفردية في تنظيمٍ يتمكّن من مواجهة الغبن والتسلّط والقمع، وإنْ لحينٍ. وهذا دافعٌ إلى تظاهرات وإضرابات تعمّ البلد، وتفتح أبوابًا أمام أحزاب يسارية لبنانية للتدخّل في واحدة من أسمى معارك المواجهة مع السلطات المتحكّمة بالبلد وناسه، رغم الهزائم اللاحقة بصانعيها.



هذا كلّه مرسومٌ بجمالية وثائقية تأخذ من المفردات التقليدية ما يقوِّي البناء الحكائيّ للنص وسردياته المختلفة (لقاءات مع أفرادٍ معنيين مباشرة بهذا الأمر، ماضيًا وحاضرًا، وبعض هؤلاء الأفراد الناشطين ماضيًا يلتقون في حاضرٍ لن يكون أقلّ ارتباكًا أو اضطرابًا أو متاهةً من أزمنة ماضية)، وتتحرّر ـ في الوقت نفسه ـ من تقنية الريبورتاج الكلاسيكي، بالاعتماد على توليفٍ (لولي سيف) يجعل صدى الحكايات أفعل تأثيرًا، في لعبة مقارنات بين أزمنة وتحوّلات، وفي طرح أسئلةٍ تؤكّد ـ بشكلٍ أو بآخر ـ صعوبة التغيير الإيجابي، إن لم تكن استحالته.

بين الواقعي والتأريخي والسردي، والجمالية الإنسانية في مقاربة ألمٍ أو خيبة أو انكسارٍ تتجلّى ـ كلّها معًا، أو كلّ واحدة منها على حدة ـ في موقفٍ أو حالةٍ أو رفض قاطعٍ لظهور أمام الكاميرا (مدراء التصوير: كرم غصين وماري جرمانوس سابا وزياد شحّود)؛ يعكس "شعورٌ أكبر من الحبّ" شيئًا كبيرًا ومهمًّا من حالة لبنانية، يُراد لها التغييب. يعكس أيضًا جمالية اللغة الوثائقية، التي تزداد بهاءً في صناعة صُوَر، وفي سرد حكايات، وفي ابتكار أشكالٍ مختلفة للبوح.
دلالات
المساهمون