ما يدور في رأس ممثّل كومبارس

07 مايو 2020
سكّان بناية يشاهدون فيلماً في كولومبيا (فرانس برس)
+ الخط -
أدخل كورونا العالم في دراما تتجاوز أفلام الخيال العلمي كلّها. هكذا يهزم كورونا هوليوود على أرض الواقع. في المغرب، ظهرت مدى سيطرة الدولة على المجال الترابي، بينما ارتفعت أصوات تحثّ على مكافحة الوباء بالقرنفل والقرفة والدعاء الصادق بالدموع، مع أماني بعضهم بأن يموت بكورونا في رمضان الحالي، ويوم الجمعة ظهراً. 
في هذا السياق، كيف سيؤثر الوباء على مستقبل السينما، وعلى نظرة الفنانين للعالم؟
هذه محاولة كتابة سيناريو توقّعي للمشهد السينمائي ما بعد الوباء، قياساً على معطيات آنية وعلى سوابق تاريخية.

ما هي السينما؟
هي صناعة وتجارة وفن يعبّر عن مجتمع، ويجيب على انتظارات متفرّجين ومُعلّقين.
على صعيد الصناعة السينمائية، توقّف التصوير، فتعرّض العاملون فيه إلى صدمة اقتصادية. حالياً، سيعاني الأقلّ مهارة منهم، بينما سيتمكّن الماهرون من الصمود، لأنّ دخلهم كان مرتفعاً.
في المغرب، توقف التصوير الأجنبي، ففَقَد الآلاف عملهم، خاصة الـ"كومبارس". سيخلق هذا صعوبات اقتصادية لسكّان منطقة "ورزازات"، التي تعيش بفضل السائحين وفِرق التصوير.
بسبب توقّف التصوير الآن، سيرتفع بعد كورونا الطلبُ، وستجد الأفلام ـالتي صُوِّرت وتأجّل عرضُهاـ المجالَ واسعاً أمامها للخروج بمنافسة أقلّ.
للوباء تأثيرات اجتماعية ستعطي نتائج تجارية. مثلاً: يوفِّر نمط الحياة العصرية وقتَ فراغٍ كبير. إذاً، في المستقبل، سيزيد الطلب على إنتاج الأفلام. هذا يُطمئن بخصوص مستقبل الصناعة السينمائية. لا قلق على قانون السوق بعد "كورونا".

السينما لا تُحتَجَر
حالياً، أُغلِقت القاعات السينمائية، فانتقلت مشاهدة الأفلام من شاشة كبيرة وشاشة تلفزيون إلى شاشة هاتف أو الأجهزة اللوحية. تضاعف عدد المشتركين بـ"نتفليكس"، واكتسحت "ديزني" السوق. مستقبلاً، ستتعزّز "المُشاهدة في عزلة". بينما يُحْتَجَر البشر، يستطيع الفيلم الوصول إلى جمهوره في الظروف كلّها. من لديه ما يعرضه الآن، سيربح في المستقبل.
كشفت منصّات العرض ضعف المنتوج السينمائي المحلي، لأنّه عاجز عن المنافسة في سوق مُعولمة. من دون قاعات ومهرجانات، فإن كلّ فيلم لا تشتريه "نتفليكس" وبقية المنصّات فاشلٌ.


سينما المؤلّف
توقّفت المهرجانات. بعضها عثر على طرق جديدة، كعرضٍ مؤقّت للأفلام على الإنترنت. مجدّداً: الأفلام لا تُحْتَجَر. هكذا تتوفّر للنقاد مادة فيلمية تدعوهم إلى الكتابة عنها. مع كثرة الأفلام، لن يكون نقّاد السينما عاطلين عن العمل.
في المغرب أيضاً، ظهرت طرق بديلة تُستخدم للمرّة الأولى، إذ عرض "المركز السينمائي المغربي" 25 فيلماً على موقعه. كما عرض مخرجون مغاربة عديدون أفلامهم على الشبكة العنكبوتية. هكذا ستضغط قاعدة الأكثر مُشاهدة على مبدعي الأفلام المغربية. سيتخلّون عن بعض تعقيدات سينما المؤلّف، التي يحاولها مخرجون لم يؤلّفوا شيئاً من قبل. من دون هذا التكيف مع قانون السوق، سينقرض المخرج الذي يريد اختراع السينما مجدّداً، في أول فيلم له.
لم يعد المتفرّجون يلتقون نجومهم المفضّلين، لكنهم يتابعونهم افتراضياً. في المستقبل، كما في الماضي، ستستمر الحاجة إلى النجم، معبود الجماهير.
حالياً، توقّفت وألغيت مواعيد مهرجاناتٍ. هكذا تضرّرت أفلام المخرجين المتفلسفين. الأفلام الباحثة عن العمق بدل التشويق تضرّرت بدورها، لأنها لا تستطيع المنافسة على منصّات المُشاهدة المدفوعة.

بعد الكارثة
كي تكون هذه المقاربة التوقعية متجذّرة، يجب أن تكون سوسيولوجية وفنية. حالياً، الدولة الوطنية تسترجع هيبتها. العولمة الافتراضية تستمرّ، لكن الحدود والجدران ستُبنى مجدّداً. "كورونا" يستولي على العالم. عدد المصابين يتزايد يومياً. هذا يجعل خبر اليوم أسوأ من خبر الأمس. إذن، خبر الغد وفنّ المستقبل سيكونان أشدّ تشاؤماً من اليوم.
كلّ ما سبق في هذه المقالة توقّعات صناعة وسوق سينمائيتين، وليست من صميم الفن. لننظر إلى تحوّل الفن:
كيف أثّر الطاعون الأسود، في منتصف القرن 14 الميلادي على مستقبل الأدب والفن في أوروبا؟
هذه محاولة تَوقّع ما بعد فيروس مجهول بناء على وقائع ماضية، فيها "قبل" و"بعد".

في القرن 13، أوصل الإيطالي يعقوب الفوراجيني المناقبية إلى أوجها. كتبَ سير القدّيسين الصلحاء المنقذين الخارقين، الذين يعالجون العقم والطاعون والعمَى والجذام. لذلك، استخدِمَت الأضرحة في فرنسا لإيواء المرضى. حينها، فُسِّر انتشار المرض بارتكاب الخطيئة (شلدون واتس، "الأوبئة والتاريخ"، ترجمة أحمد محمود عبد الجواد، "المركز القومي للترجمة" ج. 1، القاهرة، ص. 168 ـ 170). حينها، كانت الفلسفة منطوية تحت جناح الكنيسة، و"كان الدعاة الدينيون يلعنون الجمال والمتعة بوصفهما انحطاطاً وشرّاً" (برتراند راسل، "حكمة الغرب"، ج 1، ص. 228). هذا هو المعادل الموضوعي لدعاء علاج "كورونا" بالزنجبيل والحبة السوداء في مغرب 2020.
بعد عام 1347، قتل الطاعون الأسود ثلث السكّان، فانقلب الأدب سخريةً من عجز الصلحاء في العلاج، كما في قصص "الديكاميرون" (1351) لبوكاشيو. تزايدت في الأدب العناصر الهزلية والسخرية من الجمعيات الرهبانية ("تاريخ الآداب الأوروبية من الأصول حتى نهاية العصور الوسطى"، مجموعة مؤلّفين، ترجمة صياح الجهيم، ج. 1، منشورات "الهيئة العامة السورية للكتاب"، وزارة الثقافة، دمشق، 2002، ص. 159 ـ 160).
هكذا نشأ أدبٌ وفنٌّ وفلسفةٌ مقاوِمَة للقداسة، بعد الطاعون في إيطاليا ومجمل أوروبا.
إذا قيس المستقبل بالماضي، فسيُضعِف "كورونا" الثقة في خطاب العلاج بالزنجبيل والحبة السوداء ودعاء رفع البلاء. سيتعرّض هذا الخطاب لسخرية أكبر في الأفلام الكوميدية. في المقابل، سيزداد الإيمان بالطب والعلم، وسيؤثّر هذا في الفنّ.

قياسٌ آخر: كيف أثّرت الحرب العالمية الأولى على الفن؟ "غيّرت الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية فهم الناس لعوالمهم على نحو جذري" (ديفيد هوبكنز، "الدادائية والسريالية"، ص. 15). حينها، وقّع الفرنسي دوشامب مِبْوَلة باعتبارها تُحفةً، وسمّاها "نافورة في نيويورك" (1917). بعد الحرب، هيمنت نظرة متشظية عكستها التكعيبية والسوريالية، وتمّ التعبير عن هذا سينمائياً في "الكلب الأندلسي" (1929) للوي بونويل.
قياساً على هذا، يُفترَض بنظرة السينمائيين أنْ تكون أكثر تشاؤماً في الأفلام المقبلة. سيؤثّر ذلك على المواضيع وأساليب التناول:
أولاً، ستزداد أفلام الخيال العلمي التي تتخيّل كيف سيعيش سكّان العالم مع كوفيد 2049 ميلادية. ستظهر أفلام أبطال خارقين ضد الفيروسات لحماية الجسد. ستُستخدم عُدَّة أفلام حرب النجوم لتصفية العدو الأقرب، وهو "كورونا". ما جدوى تصوير ما يجري في كواكب بعيدةـ إذا كان ما يجري على الأرض يُثير الدهشة؟
ثانياً، ستكون للفيروس تأثيرات اجتماعية ستعطي نتائج فنية مستقبلاً. في مارس/ آذار 2020، غادر مليون باريسي مدينتهم إلى منازلهم الريفية، بسبب الحجر الصحي. ستستعير السينما هذا التوجّه، وستستعيد أفلام الحقول الخضراء جاذبيتها.
ثالثاً، ستكون هناك نظرة جديدة للجسد لتحصينه. لن ينتهي التباعد الاجتماعي فجأة. سيكتشف الفرد بأنّ جسده أغلى ما يملك.
رابعاً، سَتُسْتثمر نظرية المؤامرة سينمائياً. في ربيع 2020، وحبّا بالصين الشيوعية، توقّع رفاقٌ بشماتة خراب أميركا. ستردّ هوليوود مستقبلا على هذه الهرطقات. سيتمّ تصوير أفلام عن فيروس خرج عن سيطرة صانعيه. نظرية المؤامرة ضرورية، لأنّها أقلّ ضرراً للدماغ البشري من تفسير الظواهر، بالقدر الشرير، أو بالصدفة الفوضوية. ربما يقوم جيمس بوند برحلة سرّية إلى الصين بحثاً عن أصل الفيروس. سيُصوَّر "سبيدرمان" صغير يتسلّل إلى الخلايا الرئوية لمحاربة الفيروس.
خامساً، ستصير تكنولوجيا التصوير مستقبلاً أكثر تقدّماً وأكثر دقّة وأقلّ كلفة. هذا كفيل بتجاوز السينما لمحنتها المؤقّتة حالياً.

إجابة العلم 
السينما فنّ واعد. هكذا بدت مطلع القرن السابق. هي واعدة في بداية القرن 21. السينما فنّ شامل، يفتح أفقنا على العالم. الفن تعبير عن حاجات المرحلة، يحاول توعية الإنسان بالسموّ الكامن فيه، الذي يجهله. يوعّيه ويرفعه من الطبيعة إلى الثقافة. بعد "كورونا"، ستزداد الحاجة إلى هذا.
لديّ ثقة أنّ هذا الوباء سيكون الأقلّ ضرراً من الأوبئة السابقة. ولأنّي مؤمن بفكرة التقدّم الحداثية، فأنا واثقٌ بأنّ العلم سيعثر على جوابٍ للتعامل مع "كورونا".
المساهمون