الجزائرية ناريمان ماري تُضيِّع البوصلة: ارتباكات التخييل والتوثيق

21 فبراير 2018
من الوثائقي الجديد لناريمان ماري (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
الفيلم معروضٌ في مهرجانات دولية كثيرة، كلوكارنو ولندن وروتردام. إذًا، هو يَعِد بفرجة سينمائية مدهشة. بدأ بـ4 دقائق من التأمّل بقطة وكلب وشجرة؛ وبوضع صحون على طاولة؛ وبمراقبة بطة؛ وبالاستماع إلى أغنية قديمة، ثم أخرى جديدة؛ وبالتطلّع إلى النار. أناسٌ يقفون ويتحدّثون وينامون أمام الكاميرا. استجوابات على مدى 4 دقائق وأكثر، من دون مونتاج، ومع ترجمة فورية مرتجلة، يصحِّح فيها المتحدِّث للمترجم. 

بما أن Le Fort Des Fous 2017 للجزائرية ناريمان ماري معروضٌ في مهرجانات كبيرة، فهو يعطي فكرة واضحة عن اهتمام أعضاء لجان الاختيار. مشكوكٌ في أن يُعثر على قاعة سينما خارج المهرجانات، يبقى المتفرّجون فيها حتى نهايته. واضحٌ أن هذا نموذجٌ لما يسمّى "سينما المخرج المؤلّف"، الذي يدغدغ نفسه.

لا بُدّ من تناول دواء ما ضد الملل للاستمرار في مُشاهدة 140 دقيقة، هي مدّة الفيلم. أشاهد بصبرٍ، منتظرًا أن أتأثر أو أتعلم، أو لأن مشاهدة أفلام متنوّعة للغاية تساعد على الاحتفاظ بعينٍ مُلاحِظة يقظة، تقارن باستمرار.

لتجنّب كل إسقاط مسبق في تلقّي الفيلم، يُطرح سؤال المُشاهدة: ما هذا؟ ما هو منطق تلك الدغدغة؟
إنه فيلم وثائقي تخييلي. مزيج من التخييل والتوثيق. الأول سردٌ، وهذا غير موجود. الثاني تصوير أشخاص في بيئتهم المعيشية الواقعية، وهذا غير موجود (أيضًا). فيلم متخيّل ولا يسرد، ووثائقيّ وكلّه تمثيل. وثائقي لا يُجيب على الأسئلة الـ5: أين، ومتى، ومن، وكيف، ولماذا؟
يتحدّث ملخّص الفيلم عن مخيم في الصحراء الجزائرية، وعن بعثة علمية استعمارية فرنسية إلى شمال أفريقيا. يعرض قرنًا ونصف قرن من الزمن، كعامٍ في دقيقة. إذًا، هذا فيلم وثائقي تاريخي ـ أنتروبولوجي.

لكن: ما موضوع الفيلم؟ ما منطق الدغدغة؟
تعرض المخرجة مَشَاهد تدريب جيش من الدراويش، يبدو أنه يقيم في مدرسة ثانوية داخلية. أشخاص متشابهون وصامتون. جيش قليل العدد، يتدرّب في جوّ طيب ووديّ، في بيئة غير صحراوية. أفرادٌ يتبعهم شخصٌ يحمل آلة تصوير قديمة، ما يوحي بالتشابه مع "الرجل بالكاميرا" (1929) لدزيغا فيرتوف (1896 ـ 1954).



صُوِّرت غالبية مشاهد الفيلم في فضاء مغلق لتقليل التكاليف. جرى استسهال التصوير. النتيجة: صُوَر فقيرة أنتروبولوجيًا. صُوَر لا تُخبر. صُوَر تتزامن مع تكرار خطابات سياسية طويلة عن الاستعمار والإنسان الأفريقي. ما العلاقة؟
تتكرّر المشاهد نفسها من دون إضافة شيء. جمل بصرية غير مفيدة. يزعم ملخص الفيلم ومكان تصويره أن هناك محاولة بحثٍ عن المدينة الفاضلة، خارج حضارة الرجل الأبيض الغربي، كما في "مدينة زد الضائعة" (2017) لجيمس غراي (1969). لكن السينمائيّ الأميركيّ يلتزم قوانين التلقّي والسرد، ولا يحاول اختراعها. هي معروفة وراسخة. من يريد كسرها، عليه أن يتمكّن منها؛ إذْ يُفترض بكسر المنظور الخطي أن يولد من انكسار الوعي المصقول. حتى في منطق السوريالية، يبدو الفيلم فقيرًا بصريًا. مع ذلك، تُشجِّع المهرجانات هذا النوع من الأفلام، المتمرّدة على سرد قصة لها مقدمة وعقدة ونهاية سعيدة. يوهم هذا التشجيع بعض المخرجين أنهم اخترعوا السينما مجدّدًا.

تبدو فكرة الفيلم واضحة في الملخّص، أكثر مما هي واضحة في الفيلم نفسه، خاصة بالنسبة إلى من قرأ كتابي "الثقافة والإمبريالية" (1993) لإدوارد سعيد (1935 ـ 2003) و"التعرّف على المغرب" (1888) لشارل دو فوكو (1858 ـ 1916)، الراهب والرحّالة والضابط في الجيش الفرنسي، الذي زار المغرب والجزائر، ومات في صحرائها؛ والذي وفّرت كتاباته معرفة ميدانية عن إدارة الاستعمار الفرنسي، وعن المستوطنين الفرنسيين الباحثين عن الثروة.
في النصف الثاني من الفيلم، تبدد مفعول الدواء المضاد للملل. من يصنع عملاً فنيًا، تشغله 3 أسئلة: ماذا يفعل؟ لماذا يفعله؟ لمن يفعله؟ هذا بحسب هربرت ريد (1893 ـ 1968)، في كتابه "معنى الفن" (ترجمة سامي خشبة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998). يقول: "الفن نشاط إنساني يتكوّن من أن يحاول واحد من الناس أن ينقل بوعي، مستخدمًا إشارات خارجية معينة، يحاول أن ينقل إحساسات معينة، عاشها هو، ثم يتأثر الآخرون بهذه الإحساسات ويعيشونها هم أيضًا" (ص 161). هذا غير موجود في الفيلم، ما يُصيب تلقّيه بأزمة.

لتجاوز هذه الأزمة، مرّرت الصُوَر على كل أجهزة التلقّي التي عرفتها، فاكتشفت أنّ الفيلم يريد اختراع السينما مجدّدًا، من دون سرد، وبصُوَر فقيرة. يحتاج التفلسف بالكاميرا إلى ثقافة عميقة، ووجهة نظر متفرّدة، وذاكرة سينمائية، كي لا تكون الصُوَر فقيرة.
سبب اهتمام المهرجانات بهذا الفيلم؟ إنه يُدغدغ أوهام الحالمين بالثورة، جنوب المتوسّط وشرقه. فالفيلم ينتهي بزعمٍ، مفاده أنّ الحلّ العقلاني للأزمة كامنٌ في "ثورة الشعب". هذا همّ من لا يعرف الشعب.
نتيجة هذا الوهم والتشجيع الذي تلقاه مثل هذه الأفلام؟ بقدر ما تبالغ سينما الجمهور في السطحية والتنميط والتهريج لإضحاك المتفرّجين، تغرق سينما المؤلف في غرائبيتها الفارغة، والبعيدة عن منطق التلقّي.
دلالات
المساهمون