"الملك غازي".. فندق على رصيف النسيان

02 مارس 2015
أعرق فندق أردني يستسلم لعوامل الزمن واليافطات التجارية(العربي الجديد)
+ الخط -

تؤرّخ الجدران الصامتة، والأبواب والنوافذ المغلقة، والدرج المتعب صعوداً، لسيرة المكان الذي قفز المؤرخون عنه، أو عرجوا عليه بسرعة في سياق تأريخهم للمدينة، رغم مواكبته لتاريخها الحديث، واحتضانه العديد من الأحداث المفصلية التي رسمت مستقبل البلاد.

تخفي زحمة المحال التجارية المتلاصقة وسط العاصمة عمّان، التي يغرم أصحابها بعرض بضائعهم على الواجهات الأمامية، مدخلاً ضيّقاً يشبه السرداب، يقودك صعوداً إلى فندق "الملك غازي"، ثاني أقدم فنادق المدينة من حيث النشأة، وأقدم فندق ما يزال قائماً، وكما تتآمر المحال بمعروضاتها على المدخل "السحري"، يتآمر بريقها الحداثي بلافتاتها النافرة على واجهة الفندق الحجرية الهلالية الشكل، التي تعلوها مناور دائرية، ليصبح سقوط النظر على الواجهة العتيقة احتمالاً ضئيلاً ومدهشاً.

يعود تاريخ البناء إلى العام 1918، حيث شيّد ليكون منزلاً لعائلة التاجر الكردي الأصل، علي الكردي، المنحدر من مدينة "أورفا" التركية. عن السبب الذي دفعه إلى بناء بيت في الأردن يقول حفيده سامر الكردي: "أقام جدّي في عمّان اعتباراً من العام 1893، لا نعرف دوافعه، لكن يبدو أن المدينة التي عبرها مراراً خلال تجارته قد جذبته، فاختار الاقامة فيها وبناء بيت وفق الطراز الشامي لا التركي دليلاً على محبته للمكان وأهله".

بعد 14 عاماً من الاستقرار، اختار التاجر الكردي قلب المدينة الصغيرة، التي كانت أشبه بقرية كبيرة آنذاك، ليبني منزله الخاص قريباً من الأسواق، لأجل عمله، ومن مصادر المياه التي كانت تتمثّل بالينابيع والسيل الذي يشقّ المدينة، فصاغ تحفة معمارية على الطراز الشامي، تنسجم مع تراث المدينة، لكنّها تفوق بيوتها جمالاً، ويلفّها الغموض. يقول الحفيد: "أعتقد أن الذي هندس البناء شخص من الشام، وهذا واضح في التصميم، أما الواجهة فيقال في العائلة ان من بناها قد يكون شخصاً من مدينة نابلس، وأنّه أحضر الحجارة معه".


التفاصيل الغائبة عن مجريات البناء، تقلّ أهمّيتها أمام التفاصيل الغائبة عن التاريخ الحضاري والسياسي الذي لعبه المكان، يقول سامر الكردي: "كان المنزل مقصداً يقيم فيه ثوّار فلسطين وسورية".

بعد سنوات من التاريخ الحديث للبلاد، الذي بدأ مع تأسيس إمارة شرق الأردن عام 1921، واختيار عمّان عاصمة لها، تمّ تأجير منزل الكردي ليصبح مقراً لأوّل محكمة لحكومة الإمارة، كان ذلك في العام 1927، وفي أسفل المبنى تمّت إقامة خان يستقبل المسافرين وخيولهم ودوابهم، وقد تحوّل ذاك الخان في العام 1930 إلى فندق يستقبل المسافرين الرجال، فيما كانت النساء يحللن ضيفات على العائلة، التي أصبح منزلها مجاوراً للفندق.

بدايةً، كان الفندق يحمل أسم العائلة: "فندق الكردي"، لكن في العام 1939، الذي شهد وفاة ملك العراق في حادث سيارة غامض، اختير للفندق اسم الملك المغدور، فأصبح "فندق الملك غازي"، ولا يزال يحتفظ به إلى اليوم. يقول الحفيد عن سبب تغيير الاسم: "تمّ اختيار اسم الملك غازي ليكون اسماً للفندق نكاية بالإنجليز، كان الإنجليز غاضبين من الملك بسبب الشائعات التي سرت حول تقرّبه من عدّوهم هتلر، فتخلّصوا منه دون أن يتركوا أيّ دليل".

في ثلاثينيات القرن الماضي، انتقلت المحكمة إلى مقرّ آخر، ليصبح الفندق المكوّن من ثلاث عشرة غرفة، مقرّ ضيافة لزوّار الملك عبد الله الأول، الذي كان يقيم وقتها في قصر متواضع، على أحد جبال عمّان القريبة من الفندق، فأقام فيه الشاعر الأردني، مصطفى وهبي التلّ، المعروف باسم "عرار"، ونزل فيه قائد الجيش العربي آنذاك، الضابط البريطاني جون باغوت غلوب، المعروف بلقب "غلوب باشا"، كما كان مقصداً لرجال السياسية والحكم في الأردن وثوّار فلسطين وسورية خلال ثلاثينيات وحتى خمسينيات القرن الماضي.

وتقول إحدى الروايات إنّ الملك عبد الله الأوّل زار الفندق حين وقّع مع العثمانيين اتفاقاً، سلّموا بموجبه أسلحتهم إلى حكومته، وهي الرواية التي لا تجد من يؤكّدها، يقول سامر الكردي: "كانت الحادثة عن زيارة الملك إلى الفندق ترويها العائلة، لكن لم يؤكّدها أحد، بقيت رواية من دون تاريخ محدّد".


أدارت عائلة الكردي الفندق حتى مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، قبل أن تسلّم إدارته إلى محمد مفلح الزعبي، الذي أداره حتى العام 2011، تاريخ استرداده من قبل المالكين الأصليين، بعد أن عجز الزعبي عن دفع زيادة باهظة في بدل الإيجار، بموجب قانون المالكين والمستأجرين الجديد، الذي رفع أجرة الفندق السنوية من أربعة آلاف دينار نحو ستة آلاف دولارٍ أميركي، إلى 16 ألف دينار أي نحو اثنين وعشرين ألفاً وخمسمئة دولار أميركي.

ويذكر معمّرو عمّان أنه لم يكن يقدر على كلفة الإقامة في الفندق سوى ميسوري الحال، كما كانت غالباً بالدَين، ولأنّ بقاء الحال من المحال، خسر الفندق النخبة التي كانت ترتاده، بعد أن انتشرت مع مرور السنين الفنادق الفارهة، ليصبح الفندق وجهة للفقراء والعمالة الوافدة.

بعد أن استعاد المالكون الأصليّون فندقهم عمدوا إلى إغلاقه ليلفّ الصمت المكان، وتغلق النوافذ والأبواب المفضية إلى البلكونات، وتتوقّف الأقدام عن صعود السلالم، قبل أن يتملّكهم الحنين فيقرروا ترميم الفندق ومنزل العائلة الملاصق، آملين أن تعود الحياة إلى المكان الغارق في النسيان.
دلالات
المساهمون