اليمين الفرنسي المتطرف والموسيقى: من سيزعج الجبهة الوطنية الآن؟

09 يوليو 2024
رشيد طه في حفل في ألمانيا عام 2004 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في نوفمبر 1989، فرقة Les Béruriers Noirs دعت الجمهور لمعارضة اليمين المتطرف بعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية، مما ترك أثراً في المشهد الموسيقي الفرنسي.
- اليمين الفرنسي المتطرف يتهم بالعدائية تجاه الفنون، حيث مُنعت عروض وسُحب التمويل في البلديات التي يرأسها التجمّع الوطني، مع مطالب بإلغاء عقود الفنانين المهاجرين.
- صعود رشيد طه وجيل من الموسيقيين المهاجرين في التسعينيات خلق مواجهة مع "الروك الهوياتي الفرنسي"، مما دفع 15 نقابة فنية للاصطفاف ضد التجمّع الوطني.

في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1989، بعد أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية، التي حصل فيها اليمين الفرنسي المتطرف ممثلاً بمرشح الجبهة الوطنية، جان ماري لوبان، على 14 في المائة من أصوات الناخبين، وقفت فرقة Les Béruriers Noirs الفرنسية على مسرح أولمبيا في باريس، لتطلب من الجمهور رفع أصابعهم الوسطى لليمين المتطرف، وتكرار عبارة: "الشباب يزعجون الجبهة الوطنية".
بعد هذا الحفل، فُضّ شمل الفرقة الفرنسية الشهيرة، لكن الشعار الذي كرّره جمهورها في ذلك الحفل، بقي مرافقاً للمشهد الموسيقي، كلّما لاح طيف اليمين الفرنسي المتطرف أو ارتفعت أرقامه في الانتخابات. اليوم، ورغم هزيمته الكبيرة في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، تبدو أرقام اليمين في فرنسا تاريخية، وهو ما أدخل المشهد الموسيقي الفرنسي في حالة تشبه الحداد على حقبة حوّلت الساحة الفرنسية إلى حاضنٍ لكل أنواع الموسيقى، وكل أنواع الموسيقيين، خصوصاً أبناء المهاجرين.


علاقة اليمين الفرنسي المتطرف بالموسيقى، والفنون عموماً، ملتبسة. فالجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، التي أصبحت لاحقاً التجمّع الوطني، يتّهمها اليسار الفرنسي، والفنانون ونقاباتهم، بالعدائية المفرطة تجاه الفنون. ويستشهد هؤلاء بأداء التجمّع الوطني في البلديات التي يرأسها، حيث مُنعت في السنوات الاخيرة إقامة عروض "تتعارض مع قيم المجتمع الفرنسي"، أو سُحب التمويل الرسمي من بعض الحفلات والمهرجانات، لصالح خطاب ثقافي مبني على سردية وطنيّة، يركّز على الفرانكوفونية والإرث الثقافي الفرنسي، المنزّه والخالي من أي لمسة "مهاجرة". حتى إنّ النائبة في البرلمان الأوروبي، ماريون ماريشال، حفيدة جان ماري لوبان وابنة شقيقة زعيمة التجمع الوطني، مارين لوبان، ذهبت أبعد من ذلك، مطالبة بإلغاء عقود الفنانين والتقنيين والعمّال في مجال العروض، الذين يعملون وفق عروض محددة المدة، تضمن لهم الحصول على راتب مضمون، علماً أن أغلب هؤلاء من الفنانين المهاجرين أو أبناء المهاجرين الأفارقة والعرب.
المهاجرون هم، إذن، قلب الصراع الهوياتي على الساحة الموسيقية الفرنسية. وقد كانوا كذلك على كل حال، قبل الانتخابات الأوروبية ثم الفرنسية الأخيرة، لكن بزخم أقل ربما.
يحضر اسم رشيد طه تلقائياً عند الحديث عن فرنسا، الموسيقى، واليمين المتطرف. مغني الروك الذي كرّر طوال حياته أنه "جزائري إلى الأبد" لم يحصل يوماً على الجنسية الفرنسية، رغم أنه عاش في البلاد خمسين عاماً. هذه العلاقة الملتبسة بين رشيد طه وفرنسيّته المفترضة، تجلّت في أغانيه التي واكبت صعود اليمين الفرنسي المتطرف ثمّ تراجعه، ثم صعوده مجدداً، وصولاً إلى عام 2018، سنة رحيل طه.
في 1993، وبينما كان حزب جان ماري لوبان يفرد تدريجياً أجنحته فوق مدن فرنسية أساسية في الانتخابات المحلية، غنّى رشيد طه، مباشرةً ومن دون صور ومجازات، واحدة من أشهر أغاني تلك الحقبة، Voila, Voila. تقول كلمات الأغنية: "في كل مكان، في كل مكان، يتقدمون/ الدرس لم يكن كافياً/ ولا بد من القول إننا في الذاكرة اخترنا النسيان/
في كل مكان، وفي كل مكان، الخطابات هي نفسها/ أيها الغريب، أنت سبب مشاكلنا/ اعتقدتُ أنها انتهت/ لكن لا، لكن لا، لقد كانت مجرد فترة راحة".


صعود رشيد طه، ومعه جيل من الموسيقيين المهاجرين في تسعينيات القرن الماضي، بخطاب سياسي وثقافي واضح، في وجه اليمين والشعارات المعادية للمهاجرين والعرب والمسلمين، خلق مساحة مواجهة، مع نوع موسيقي آخر، ظهر في النصف الثاني من التسعينيات، وهو الذي بات يعرف بـ"الروك الهوياتي الفرنسي" (Rock Identitaire Français). حملت الفرق التي قدّمت هذا النوع الموسيقي، خطاباً حاول جذب الشباب الفرنسي، مقابل سطوة كبيرة للفنانين والفرق اليسارية في تلك الفترة. وفي مطلع الألفية الجديدة، خفت نجم هذه الفرق، خصوصاً فرقتَي Memorial Records وBleu Blanc Rock، لكن عُرِفت فرقة أخرى، شكلت ظهيراً موسيقياً للجبهة الوطنية، وهي Les Brigandes، حتى إن جان ماري لوبان ظهر معها في إحدى الأغاني.
هذا الأخذ والردّ على الساحة الموسيقية الفرنسية، خفت تدريجياً في العقد الثاني من الألفية الجديدة، لصالح نقاشات أخرى، أوروبية وعالمية، في وقت اختار مغنون كثيرون، شكلوا نجوم الجيل الجديد الابتعاد عن السياسة المباشرة، مفضلين الغناء للحب، والصداقة والعائلة وبعض القضايا الاجتماعية، باستثناء القليل من مغني الراب، وأغلبهم من أصول مغاربية.
اليوم، يفرض اليمين واقعاً جديداً في فرنسا، ودول أوروبية أخرى. واقع يرعب فنانين كثراً، فدعت 15 نقابة فنية إلى الاصطفاف في وجه التجمّع الوطني. ودعا فنانون شباب إلى مواجهة المدّ اليميني المتطرف، من بين هؤلاء مغنّيا الراب سوبرانو، وأولي (من ثنائي بيغ فلو وشقيقه أولي)، ومعهما عشرات الفنانين الذين يعملون في قطاعات موسيقية بديلة، وربما لا تصل إلى قطاع واسع من الفرنسيين.
مقابل هؤلاء، كان لافتاً الصمت التام لفنانين آخرين، خصوصاً من مغنّي الراب، بينهم النجمان الفرنسيان الأشهر، أي جول (أكثر مغنّي الراب الفرنسيين مبيعاً في تاريخ البلاد) ونينيو. حتى مغنّو البوب والموسيقيون العاملون في هذا النوع الموسيقى، فضّلوا الاحتفاظ بآرائهم السياسية لأنفسهم، عكس الجيل الأشهر من فناني البوب والروك الفرنسيين الذين شكلوا في ثمانينيات القرن الماضي سداً منيعاً في وجه تفشي أفكار اليمين المتطرف بين الشباب. نذكر منهم تيليفون، وفرانسيس كابريل، وجان ــ جاك غولدمان، وفرقة أندوشين. هؤلاء جميعاً، ومعهم فنانون فرنسيون آخرون، اعتلوا مسرح لا كونكورد في باريس في 15 يونيو/ حزيران 1985 بمبادرة من منظمة "أس أو أس راسيزم"، ليغنوا ضد "التمييز العنصري وضد الجبهة الوطنية وسياساتها"، وذلك مع بداية تصاعد الخطاب المعادي للمهاجرين منتصف الثمانينيات، خصوصاً المسلمين والعرب.

لكن الحال اليوم، غير الحال قبل سنوات. في عام 2002، عندما وصل جان ماري لوبان إلى جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، ليواجه الرئيس السابق جاك شيراك، نزل آلاف الفنانين إلى شوارع باريس، وحركوا الرأي العام، ليخسر لوبان جولة الإعادة تلك. "اليوم، وبعد نتائج الانتخابات الأوروبية الشهر الماضي، اتصلت بثلاثة موسيقيين كبار في عالم الموسيقى الكلاسيكية الفرنسية، وطلبت منهم أن نكتب بياناً ندين فيه صعود اليمين، ونرفضه، لكن الثلاثة رفضوا"، قال عازف البيانو الفرنسي ألكساندر تارو في مقابلة مع إذاعة "فرانس موزيك".
يدرك تارو أن أثر الفنانين تلاشى، لكنه يكرّر أكثر من مرة في المقابلة تلك: "لقد داس اليمين المتطرف دائماً الفنانين".

المساهمون