أطلق سعيد فريحة الصحافي الكبير والظريف، على نجيب حنكش لقب "ظريف لبنان". وهو تميّز بظرفه فعلاً، بنكاته التي يتقن أداءها. وكنتُ أضحك وأنا أسمعه يرويها، حتى وإن كنت أعرفها، نظراً إلى حسن إلقائه وإلى البهارات التي يرشّها عليها. وهو كان راوياً للنكات ومبتكراً لبعضها. وحدث أنني ضحكتُ حين قرأت في الإنترنت في موقع يرجع إليه كثيرون، أن نجيب حنكش من مواليد 1931، وأنه توفي سنة 1977. يعني عن ستة وأربعين عاماً. وقهقهت لمّا قرأت في بقية الخبر أنه مولود في "حيّ زحلة في بيروت". يعني أن مدينة زحلة أصبحت أحد أحياء بيروت.
والصحيح أنه من مواليد زحلة عام 1904، وفيها توفي سنة 1979 عن عمر ناهز الخامسة والسبعين، وأنه هاجر منها سنة 1922 متوجهاً إلى البرازيل مقصد هجرة الكثيرين من اللبنانيين، وخصوصاً من أهل زحلة. (حالياً فاق عدد المتحدرين من زحلة والمقيمين في البرازيل عدد سكان زحلة ذاتها).
وكمثل أقرانه، بدأ العمل بائعاً متجولاً يحمل "الكشّة" وعليها مختلف السلع، ويمشّط حوانيت التجار في ساو باولو، عارضاً بضاعته. وكمثل أقرانه تطورت حالته المادية وصار تاجراً يشتري من حملة الكشّة، ثم يتعامل بالجملة، وبعدها صُنِّف مع الأثرياء. وهو أوجز هذه المرحلة من العمر في أغنية كتبها ولحنها وغنّاها. يقول في مطلعها: "من بلدنا جينا هريبه/ لها البلاد الغريبه/ حتى نجمع مصريات/ شغل الكشّة كان أوّلها/ وبيع الجمله كان آخرها/ والتجارة خود وهات". ثم انتقل للحديث عن عزوف الشاب عن الزواج لأسباب مختلفة، إلى أن يدبّ الشيب في شعره ويبقى أعزب. والطريف أن نجيب حنكش أمضى حياته أعزب هو الآخر.
وحدث أيام الفقر في البرازيل أن نجيب كان يتسلى بلعب الورق مع أصدقاء من أبناء المهاجرين. يقامرون فيما بينهم بمبالغ بسيطة. وعرفت أمه بالأمر فاستشاطت غضباً وعاتبته بمرارة وقالت محتدّة إنهم يعملون ليل نهار من أجل تأمين لقمة العيش وهو يغامر بما جمعه في لعبة قمار. فما كان منه إلا أن أعطاها مبلغاً كبيراً وقال لها: "هذا ما ربحته الليلة! أنا لاعب محترف وأربح دائما". وقد بَهَّر نجيب حنكش القصة حين رواها، فقال إنه عاد في مساء اليوم التالي مبكراً إلى بيته فسألته أمه: "ما عندك لعبة ورق الليلة؟".
كما بهّر ما يتعلّق باسمه. وهو غير متداول. وكان البرازيليون يجدون صعوبة في لفظه. أولاً بسبب عدم وجود حرف الحاء في أبجديتهم، ثانياً لغرابة الاسم، فكان البعض يناديه هنكش، والآخر منكش، وثالث يناديه "يا منتش".
إلى جانب عمله في التجارة في البرازيل، كان نجم الحفلات التي تحييها أندية المغتربين بساو باولو. يلقي النكات وينشد الأغنيات، قليلها من أغانٍ خاصة به، وكثيرها من الأغاني الشائعة. وهو كان منذ سني الشباب الأولى مولعاً بالفنون. وكان يحرص وهو في البرازيل على اقتناء أسطوانات عبد الوهاب، ويحضر عروض أفلامه. وهو الذي تولى توزيع فيلم "الوردة البيضاء" في الأرجنتين.
ومن ألحان نجيب حنكش الشهيرة، لحن "أعطني الناي وغنِّ"، وقد استوحاه من مقطوعة تانغو أرجنتينية شهيرة "لا كومبارسيتا". غنّى مطلع قصيدة "المواكب" لجبران خليل جبران وبعض أبيات منها، ليست هي الأبيات التي غنتها فيروز عندما أنشدت القصيدة. تولّى الأخوان رحباني توزيع الأغنية توزيعاً جديداً، وحافظا على لحن حنكش وعلى اختيار مطلع القصيدة، وإنْ اختارا أبياتاً أخرى من قصيدة جبران. وغنّى نجيب حنكش أيضاً قصيدة "فيك يا دار الوفا" من كلمات وألحان الزحلي خليل القاري، الذي كان أوّل من غنّاها. ولاحقاً، غنتها المطربة صباح أيضاً. وعلى لحن ترتيلة "وا حبيبي" الكنسية الشهيرة، غنّى حنكش قصيدة الشاعر الزحلي المهجري شفيق المعلوف "أغنية الحلم الهارب" ومطلعها: "كان لي حلمٌ جميل بين جفنيَّ استراحْ/ شقَّ ثوبَ الليل عنه وتعرَّى للصباحْ/ حينما صفّق جفني، صفق الحلم وراحْ/ ليت حلمي مثل قلبي كان مكسور الجناحْ". ومن كلمات الشاعر رياض معلوف (أخو شفيق وفوزي) غنّى قصيدة "هل يا ترى نعود إليك يا لبنان" على لحن غربي شائع هو ذاته الذي اقتبسه الأخوان رحباني في أغنية "يا لور حبّك". وبالرغم من وجود أغانٍ كتبها ولحّنها وغناها مثل "حاكيني ع التلفون كل يوم مرّة"، إلا أنه لم يصبح ملحناً محترفاً، وظلّ مشروع ملحن، ومشروع مطرب لم يحترف الغناء أيضاً.
بعد رحلة الغربة عاد نجيب حنكش إلى زحلة في زيارة في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، بيد أنه استقرّ نهائياً في لبنان بدءاً من عام 1947. وكان اسمه معروفاً آنذاك في الأوساط السياسية والصحافية والفنية. ذلك أنه في الزيارات التي قام بها في السنوات التي سبقت عام العودة، كان قد تعرّف إلى مجموعة من أهل السياسة، من بينهم رياض الصلح، وصار نديم المجالس، كما كان من قبل نجم حفلات السمر التي أقامتها الجالية اللبنانية في البرازيل. وتعرّف إلى أهل الصحافة، ومن بينهم سعيد فريحة الذي كان قد أنشأ مجلة "الصياد" سنة 1943. هكذا كان ظرفه بطاقة التعريف التي فتحت أمامه أبواب مجتمع النخبة.
لكن شكري البخاش، صاحب جريدة "زحلة الفتاة" ورئيس تحريرها، كان أول من أعطى نجيب حنكش فرصة كتابة المقالات. شجّعه على ذلك. قال له: "اكتب طرائفك كما ترويها"، فتهيّب حنكش الأمر وقال: "أنا والنحو والصرف مش أصحاب. لا أطمئن إلى كان وأخواتها وإلى الضمير المستتر ونائب الفاعل والمبني للمجهول". فأجابه شكري: "لا عليك. اكتب الطرائف ونحن ننقح النص ونحرّره".
وكانت "رسالة إلى الحمير" من أولى مقالاته في "زحلة الفتاة"، وفيها بثّ سخريته كاتباً رسالة موجهة إلى الحمير، ممتدحاً امتناعهم عن إطلاق الرصاص في المآتم والأعراس، وعن إزعاج الناس بالضجيج، وعن ترويعهم بإلقاء المفرقعات، واقترح أن يعقد معاهدة صداقة معهم. وذيّل المقالة بنكتة: أرسل رجل ولده إلى سوق الحمير وطلب منه أن يشتري حماراً "متل الناس". وتعبير "متل الناس" بالعامية يعني أنه جيّد. وعاد الولد من السوق خائباً؛ ولما سأله والده عن السبب أجاب: ما لقيت حماراً متل الناس، لكني وجدت أناساً كثيرين متل الحمير.
اقــرأ أيضاً
ولم يعرف أحد شيئاً عن ميول نجيب حنكش السياسية، ولا هو صرّح برأيه مرة، سوى انتقادات لحالات عامة لا لشخص بعينه. وهو بذلك حافظ على علاقات طيبة مع سائر الأفرقاء في مجال السياسة كما في مجال الفنون. وحدث أن الشاعر سعيد عقل خاض الانتخابات النيابية ذات مرّة على أمل الوصول إلى البرلمان. وأوحت المناسبة إلى نجيب حنكش بنكتة رواها. قال: "كان سعيد عقل يعقد لقاءات في أحياء المدينة مع الناخبين على غرار اللقاءات التي كان الساسة المحترفون يعقدونها. وفي أحد اللقاءات استرسل سعيد عقل في الحديث عن أفلاطون وسائر فلاسفة الإغريق، وعن القديس توما الأكويني وسائر اللاهوتيين، وعن الملك أحيرام وسائر الملوك الفينيقيين. وفي ختام الخطاب سأله مواطن من الحاضرين: "أستاذ، نحن عرفنا قديش حضرتك بتفهم، بس ما فهمنا قديش حضرتك بتدفع".
كما تجنب نجيب حنكش الجواب عن أي سؤال يتعلق بميوله السياسية، تهرّب من الردّ على أي سؤال يتعلق بسني عمره أو بحجم ثروته. ولو أنه عاش وقرأ ما ذُكر عن عمره في شبكة الإنترنت لأحال السائل عليها وعلّق: "يمكن غلطانين بسنه أو بضعة أشهر". أما بخصوص ثروته، فالحق يقال إنه جمعها بعرق جبينه في سنوات الاغتراب، وبذكائه في استثمارها في لبنان. وهو وظف القسم الأكبر منها في قطاع السياحة. كان أحد الشركاء في ملكية مطعم "كازينو الوادي" آخر المطاعم المنتشرة على ضفاف نهر البردوني في زحلة، وكان أحد الشركاء في ملكية فندق "شتورا بارك أوتيل" الذي كان من نزلائه عدة مشاهير، من أبرزهم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب. وكان يملك مطعم "الأوبرج" في شتورا مناصفة مع ابن شقيقته فؤاد بو منصور.
وذات يوم دخلت حديقة فندق "شتورا بارك" ولمحت السيدة أم كلثوم جالسة في المنطقة الظليلة، وقد دنا حنكش منها آتياً من حيث البركة المقابلة التي يسبح فيها البط. قال كلاماً للست وأجابته كوكب الشرق بتعليق وانفجر الاثنان في الضحك. بعد التحية استفسرت فقال لي: "قلت لسلطانة الطرب العظمى: "شفتي البط ده صاحبي.. أنا بلعبّه وأكلمه وهو يوشوشني ويردّ عليّ" فأجابتني: "أكيد.. الحيوانات دايماً يفهموا على بعض".
كان نجيب حنكش يأخذ راحته في رواية النكات. وكان في الوقت نفسه يتقبل النكتة الظريفة حتى لو كانت ضدّه. مرّة تقبّلها مني. سألني عن رجل يدّعي أنه شاعر، وكان في الواقع أبعد الناس عن الشعر. قال لي: "ما علاقة فلان بالشعر؟"، قلت له: "مثل علاقتك بالتلحين". وسرعان ما اعتذرت بأشد عبارات الاعتذار عن الهفوة. لكنه تقبّلها وأردف: "حلوة، بس ما بقى تعيدها". وربما شفعت لي صلة القربى بيننا؛ فهو نسيب جدتي لأمي.
ومن ذكاء نجيب حنكش أنه كان يبتكر النكات الموجهة ضد ذاته. هو روى النكتة الآتية: "كنت أتمشّى في شارع زحلة الرئيسي برفقة صديق. ولمح الصديق رجلاً يدنو منّا فقال لي: هذا الرجل ساذج. استلمه. وبعدما حيّانا الرجل أبدى إعجابه بي وبفني، استأذنته بسؤال. قال: "تفضل". فسألته: إذا كانت المسافة من هنا إلى مدخل زحلة 2 كيلومتر؛ فكم يكون عمر أخي؟ استغرب السؤال فكررته. فأجابني: عمره أربعون! قلت: صحيح. لكن بالله عليك: كيف عرفت؟ قال: "عندي بالبيت أخ نصف أهبل عمره عشرون. وبناءً عليه قدّرت عمر أخيك المحترم".
وكان نجيب حنكش من كبار الأعضاء في نادي البخل العالمي، شأنه شأن أم كلثوم وعبد الوهاب. وكان يتندر ببخله ويروي عنه الطرائف، وذلك من باب الدهاء، إذ يتحوّل البخل إلى مادة فكاهية محببة، فيغفل الناس عن انتقاد النقيصة ويرددون النكتة الظريفة!
والصحيح أنه من مواليد زحلة عام 1904، وفيها توفي سنة 1979 عن عمر ناهز الخامسة والسبعين، وأنه هاجر منها سنة 1922 متوجهاً إلى البرازيل مقصد هجرة الكثيرين من اللبنانيين، وخصوصاً من أهل زحلة. (حالياً فاق عدد المتحدرين من زحلة والمقيمين في البرازيل عدد سكان زحلة ذاتها).
وكمثل أقرانه، بدأ العمل بائعاً متجولاً يحمل "الكشّة" وعليها مختلف السلع، ويمشّط حوانيت التجار في ساو باولو، عارضاً بضاعته. وكمثل أقرانه تطورت حالته المادية وصار تاجراً يشتري من حملة الكشّة، ثم يتعامل بالجملة، وبعدها صُنِّف مع الأثرياء. وهو أوجز هذه المرحلة من العمر في أغنية كتبها ولحنها وغنّاها. يقول في مطلعها: "من بلدنا جينا هريبه/ لها البلاد الغريبه/ حتى نجمع مصريات/ شغل الكشّة كان أوّلها/ وبيع الجمله كان آخرها/ والتجارة خود وهات". ثم انتقل للحديث عن عزوف الشاب عن الزواج لأسباب مختلفة، إلى أن يدبّ الشيب في شعره ويبقى أعزب. والطريف أن نجيب حنكش أمضى حياته أعزب هو الآخر.
وحدث أيام الفقر في البرازيل أن نجيب كان يتسلى بلعب الورق مع أصدقاء من أبناء المهاجرين. يقامرون فيما بينهم بمبالغ بسيطة. وعرفت أمه بالأمر فاستشاطت غضباً وعاتبته بمرارة وقالت محتدّة إنهم يعملون ليل نهار من أجل تأمين لقمة العيش وهو يغامر بما جمعه في لعبة قمار. فما كان منه إلا أن أعطاها مبلغاً كبيراً وقال لها: "هذا ما ربحته الليلة! أنا لاعب محترف وأربح دائما". وقد بَهَّر نجيب حنكش القصة حين رواها، فقال إنه عاد في مساء اليوم التالي مبكراً إلى بيته فسألته أمه: "ما عندك لعبة ورق الليلة؟".
كما بهّر ما يتعلّق باسمه. وهو غير متداول. وكان البرازيليون يجدون صعوبة في لفظه. أولاً بسبب عدم وجود حرف الحاء في أبجديتهم، ثانياً لغرابة الاسم، فكان البعض يناديه هنكش، والآخر منكش، وثالث يناديه "يا منتش".
إلى جانب عمله في التجارة في البرازيل، كان نجم الحفلات التي تحييها أندية المغتربين بساو باولو. يلقي النكات وينشد الأغنيات، قليلها من أغانٍ خاصة به، وكثيرها من الأغاني الشائعة. وهو كان منذ سني الشباب الأولى مولعاً بالفنون. وكان يحرص وهو في البرازيل على اقتناء أسطوانات عبد الوهاب، ويحضر عروض أفلامه. وهو الذي تولى توزيع فيلم "الوردة البيضاء" في الأرجنتين.
ومن ألحان نجيب حنكش الشهيرة، لحن "أعطني الناي وغنِّ"، وقد استوحاه من مقطوعة تانغو أرجنتينية شهيرة "لا كومبارسيتا". غنّى مطلع قصيدة "المواكب" لجبران خليل جبران وبعض أبيات منها، ليست هي الأبيات التي غنتها فيروز عندما أنشدت القصيدة. تولّى الأخوان رحباني توزيع الأغنية توزيعاً جديداً، وحافظا على لحن حنكش وعلى اختيار مطلع القصيدة، وإنْ اختارا أبياتاً أخرى من قصيدة جبران. وغنّى نجيب حنكش أيضاً قصيدة "فيك يا دار الوفا" من كلمات وألحان الزحلي خليل القاري، الذي كان أوّل من غنّاها. ولاحقاً، غنتها المطربة صباح أيضاً. وعلى لحن ترتيلة "وا حبيبي" الكنسية الشهيرة، غنّى حنكش قصيدة الشاعر الزحلي المهجري شفيق المعلوف "أغنية الحلم الهارب" ومطلعها: "كان لي حلمٌ جميل بين جفنيَّ استراحْ/ شقَّ ثوبَ الليل عنه وتعرَّى للصباحْ/ حينما صفّق جفني، صفق الحلم وراحْ/ ليت حلمي مثل قلبي كان مكسور الجناحْ". ومن كلمات الشاعر رياض معلوف (أخو شفيق وفوزي) غنّى قصيدة "هل يا ترى نعود إليك يا لبنان" على لحن غربي شائع هو ذاته الذي اقتبسه الأخوان رحباني في أغنية "يا لور حبّك". وبالرغم من وجود أغانٍ كتبها ولحّنها وغناها مثل "حاكيني ع التلفون كل يوم مرّة"، إلا أنه لم يصبح ملحناً محترفاً، وظلّ مشروع ملحن، ومشروع مطرب لم يحترف الغناء أيضاً.
بعد رحلة الغربة عاد نجيب حنكش إلى زحلة في زيارة في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، بيد أنه استقرّ نهائياً في لبنان بدءاً من عام 1947. وكان اسمه معروفاً آنذاك في الأوساط السياسية والصحافية والفنية. ذلك أنه في الزيارات التي قام بها في السنوات التي سبقت عام العودة، كان قد تعرّف إلى مجموعة من أهل السياسة، من بينهم رياض الصلح، وصار نديم المجالس، كما كان من قبل نجم حفلات السمر التي أقامتها الجالية اللبنانية في البرازيل. وتعرّف إلى أهل الصحافة، ومن بينهم سعيد فريحة الذي كان قد أنشأ مجلة "الصياد" سنة 1943. هكذا كان ظرفه بطاقة التعريف التي فتحت أمامه أبواب مجتمع النخبة.
لكن شكري البخاش، صاحب جريدة "زحلة الفتاة" ورئيس تحريرها، كان أول من أعطى نجيب حنكش فرصة كتابة المقالات. شجّعه على ذلك. قال له: "اكتب طرائفك كما ترويها"، فتهيّب حنكش الأمر وقال: "أنا والنحو والصرف مش أصحاب. لا أطمئن إلى كان وأخواتها وإلى الضمير المستتر ونائب الفاعل والمبني للمجهول". فأجابه شكري: "لا عليك. اكتب الطرائف ونحن ننقح النص ونحرّره".
وكانت "رسالة إلى الحمير" من أولى مقالاته في "زحلة الفتاة"، وفيها بثّ سخريته كاتباً رسالة موجهة إلى الحمير، ممتدحاً امتناعهم عن إطلاق الرصاص في المآتم والأعراس، وعن إزعاج الناس بالضجيج، وعن ترويعهم بإلقاء المفرقعات، واقترح أن يعقد معاهدة صداقة معهم. وذيّل المقالة بنكتة: أرسل رجل ولده إلى سوق الحمير وطلب منه أن يشتري حماراً "متل الناس". وتعبير "متل الناس" بالعامية يعني أنه جيّد. وعاد الولد من السوق خائباً؛ ولما سأله والده عن السبب أجاب: ما لقيت حماراً متل الناس، لكني وجدت أناساً كثيرين متل الحمير.
بعد "زحلة الفتاة" أخذ نجيب حنكش ينشر مقالاته في صحف لبنانية عدة: "الصياد"، و"كل شيء"، و"الجريدة"، و"الصفاء". وأصدر كتاباً عنوانه "حنكشيات منوّعة" قدّم له ميخائيل نعيمة. وقدّم في الإذاعة اللبنانية برامج منوّعة. وكان له في تلفزيون لبنان برنامج أسبوعي قائم على مقابلات يجريها مع أشهر الفنانين، حظي بمتابعة كبيرة من جمهور المشاهدين، لأنه استضاف كبار المشاهير، ولأن حنكش كان يروي في كل حلقة بعضاً من طرائفه. وقد اشتهر بمجاملاته، المبالغ فيها أحياناً، فيجعل ضيفه أهمّ أقرانه. أهم مطرب، أهم ملحن، أهم ممثلة... وفي الحلقة التالية تغدو ضيفته الممثلة أهم ممثلة. لكنه كان يحمّل طرائفه نقداً اجتماعياً قدر الإمكان. وأذكر أنه في إحدى الحلقات صوّر قرداً وراح يطرح عليه بعض الأسئلة كما لو أنه يجري مقابلة معه. سأله إلى أي طائفة ينتمي وإلى أي حزب ينتسب.
ولم يعرف أحد شيئاً عن ميول نجيب حنكش السياسية، ولا هو صرّح برأيه مرة، سوى انتقادات لحالات عامة لا لشخص بعينه. وهو بذلك حافظ على علاقات طيبة مع سائر الأفرقاء في مجال السياسة كما في مجال الفنون. وحدث أن الشاعر سعيد عقل خاض الانتخابات النيابية ذات مرّة على أمل الوصول إلى البرلمان. وأوحت المناسبة إلى نجيب حنكش بنكتة رواها. قال: "كان سعيد عقل يعقد لقاءات في أحياء المدينة مع الناخبين على غرار اللقاءات التي كان الساسة المحترفون يعقدونها. وفي أحد اللقاءات استرسل سعيد عقل في الحديث عن أفلاطون وسائر فلاسفة الإغريق، وعن القديس توما الأكويني وسائر اللاهوتيين، وعن الملك أحيرام وسائر الملوك الفينيقيين. وفي ختام الخطاب سأله مواطن من الحاضرين: "أستاذ، نحن عرفنا قديش حضرتك بتفهم، بس ما فهمنا قديش حضرتك بتدفع".
كما تجنب نجيب حنكش الجواب عن أي سؤال يتعلق بميوله السياسية، تهرّب من الردّ على أي سؤال يتعلق بسني عمره أو بحجم ثروته. ولو أنه عاش وقرأ ما ذُكر عن عمره في شبكة الإنترنت لأحال السائل عليها وعلّق: "يمكن غلطانين بسنه أو بضعة أشهر". أما بخصوص ثروته، فالحق يقال إنه جمعها بعرق جبينه في سنوات الاغتراب، وبذكائه في استثمارها في لبنان. وهو وظف القسم الأكبر منها في قطاع السياحة. كان أحد الشركاء في ملكية مطعم "كازينو الوادي" آخر المطاعم المنتشرة على ضفاف نهر البردوني في زحلة، وكان أحد الشركاء في ملكية فندق "شتورا بارك أوتيل" الذي كان من نزلائه عدة مشاهير، من أبرزهم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب. وكان يملك مطعم "الأوبرج" في شتورا مناصفة مع ابن شقيقته فؤاد بو منصور.
وذات يوم دخلت حديقة فندق "شتورا بارك" ولمحت السيدة أم كلثوم جالسة في المنطقة الظليلة، وقد دنا حنكش منها آتياً من حيث البركة المقابلة التي يسبح فيها البط. قال كلاماً للست وأجابته كوكب الشرق بتعليق وانفجر الاثنان في الضحك. بعد التحية استفسرت فقال لي: "قلت لسلطانة الطرب العظمى: "شفتي البط ده صاحبي.. أنا بلعبّه وأكلمه وهو يوشوشني ويردّ عليّ" فأجابتني: "أكيد.. الحيوانات دايماً يفهموا على بعض".
كان نجيب حنكش يأخذ راحته في رواية النكات. وكان في الوقت نفسه يتقبل النكتة الظريفة حتى لو كانت ضدّه. مرّة تقبّلها مني. سألني عن رجل يدّعي أنه شاعر، وكان في الواقع أبعد الناس عن الشعر. قال لي: "ما علاقة فلان بالشعر؟"، قلت له: "مثل علاقتك بالتلحين". وسرعان ما اعتذرت بأشد عبارات الاعتذار عن الهفوة. لكنه تقبّلها وأردف: "حلوة، بس ما بقى تعيدها". وربما شفعت لي صلة القربى بيننا؛ فهو نسيب جدتي لأمي.
ومن ذكاء نجيب حنكش أنه كان يبتكر النكات الموجهة ضد ذاته. هو روى النكتة الآتية: "كنت أتمشّى في شارع زحلة الرئيسي برفقة صديق. ولمح الصديق رجلاً يدنو منّا فقال لي: هذا الرجل ساذج. استلمه. وبعدما حيّانا الرجل أبدى إعجابه بي وبفني، استأذنته بسؤال. قال: "تفضل". فسألته: إذا كانت المسافة من هنا إلى مدخل زحلة 2 كيلومتر؛ فكم يكون عمر أخي؟ استغرب السؤال فكررته. فأجابني: عمره أربعون! قلت: صحيح. لكن بالله عليك: كيف عرفت؟ قال: "عندي بالبيت أخ نصف أهبل عمره عشرون. وبناءً عليه قدّرت عمر أخيك المحترم".
وكان نجيب حنكش من كبار الأعضاء في نادي البخل العالمي، شأنه شأن أم كلثوم وعبد الوهاب. وكان يتندر ببخله ويروي عنه الطرائف، وذلك من باب الدهاء، إذ يتحوّل البخل إلى مادة فكاهية محببة، فيغفل الناس عن انتقاد النقيصة ويرددون النكتة الظريفة!