"أتتذكّر؟" لمييلي: نحن نعيد كتابة الذاكرة

04 أكتوبر 2018
من "أتتذكّر؟" للإيطالي فاليريو مييلي (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
إذا حاولتَ تلخيص قصة "أتتذكّر؟" (?Ricordi، إنتاج إيطالي فرنسي، 2018) لفاليريو مييلي (1978) ـ المعروض في برنامج "أيام فينيسيا" في الدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" وفي المسابقة الرسمية الخاصة بالأفلام الروائية الطويلة، في الدورة الثانية (20 ـ 28 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ فإنك لن تجد فيها ما يُثير الانتباه: علاقة عادية بين لوي (لوكا مارينيلّي) ولي (ليندا كاريدي)، تمرّ في فترات صعودٍ وهبوط، وفيها صدامات ولحظات رومانسية، ونهايات ثم محاولة البدء مجدَّدًا، من دون دراما واضحة أو استثنائية أو أي شيء فارق على مستوى الحكاية. 

لكن، ما جعل الفيلم مُميّزًا فعليًا كامنٌ في المَنظور الذي تعامل به المخرج وكاتب الفيلم مييلي، في ثاني أفلامه الطويلة بعد 6 أعوام على الأول، وهو بعنوان "10 شتاءات في فينيسيا" (2012) مع قصّته. فهو لا يتناول العلاقة، بل الذكريات التي تشكّلها: ذكرياتنا البعيدة التي تكوّننا كأشخاص، وتلك القريبة (مع من نُحِبّ) التي تتغيّر تفاصيلها بالنسبة إلينا كلّ فترة.
سرد الفيلم غير نمطي على الإطلاق. يشبه بشكل أو بآخر الأفلام الأخيرة للمخرج الأميركي تيرينس ماليك (1943)، تحديدًا "أغنية لأغنية" (Song To Song، 2017)، الذي يكون المونتاج فيه البطل الأساسي للفيلم، لأن الخطوط والمشاهد والتفاصيل الدرامية تتقاطع، ليس فقط في اتّخاذ "سرد غير خطي" (أي أنه غير ملتزم بالتتابع الزمني الطبيعي للأحداث)، بل يذهب إلى نقطة أعقد، بطموح أن يكون أقرب إلى عمل الذاكرة، فيكون عشوائيًا ومتقاطعًا وغير متوقّع. وكذلك الأمر في فيلمه "شجرة الحياة"؛ إذ كان المونتاج، أيضاً، هو الحبكة الأساسية في الفيلم، إن صحّ القول؛ فخطوط لمجموعة حكايات تبدو غير مترابطة، بدأت تتكشّف الصلات بينها تدريجيًا من خلال العمل على المونتاج الذي خلق خطاً سردياً متيناً يجمع هذه الحكايات.



مثلٌ على ذلك: مشهد رومانسي بين الحبيبين في لحظة صافية، يتقاطع مع مشهد آخر للقائهما الأول، وسرد كل منهما لكيفية إعجابه بالآخر، قبل أن يتوتر لوي لتذكّره شيئًا من طفولته، فيُشرك حبيبته معه بأن يحكي ومضات من العلاقة المُدمِّرة بين أبيه وأمه. هكذا طوال الفيلم، ذهاب وإياب بين فيض من الذكريات، لا يبدو واضحًا ـ بشكل قطعيّ ـ موقعنا في الزمن: أين هو الماضي والحاضر والمستقبل في كل ما يظهر على الشاشة الكبيرة؟ هذا خيار خطر جدًا يتّخذه صانع فيلم. فببساطة، يمكن أن ينفصل المُشاهد عما يراه، معتقدًا أنه عشوائي للغاية وغير مثير للانتباه. لكن فاليريو مييلي يُراهن ـ في المقام الأول ـ على تدفّق المشاعر والوصل العاطفي بين المُشاهِد والتفاصيل المتتالية التي يراها، والتي قد لا تكون كاملة، أو أنها تمثّل حكاية مُغلقة لكنها تعطي فكرة ومشاعر واضحة عن ماضي الشخصيات وعقدهم وأحاسيسهم.
في المقام الثاني، راهن مييلي على ممثليه، وعلى الكيمياء الاستثنائية التي جمعت لوكا مارينلّي بليندا كاريدي في المَشاهد كلّها التي جمعتهما معًا.

الرهان الثالث متمثّل في شكل الصورة الرائقة جدًا التي يقدّمها، وقدرته على خلق لحظات سينمائية صادقة وجاذبة في كلّ حين، باستغلال الحركة والألوان والتكوينات، وكل شيء يمكن أن يساعده على منح الذكريات، التي يسجِّلها في فيلم سينمائي، خصوصيتها أمام عينيّ المُشاهِد.
"أتتذكّر؟" فيلم مخلص جدًا لسؤال الذكريات، ولكيفية تشكيلها لأصحابها، ولمساهمتها في قراراتهم وحركاتهم في الزمن. فيلمٌ يبدو مثالاً رائعًا لجملة المخرج الفرنسي كريس ماركر (1921 ـ 2012): "(نحن) لا نتذكّر، بل نُعيد كتابة الذاكرة". في الفيلم الإيطالي، تفعل الشخصيتان الأساسيتان هذا، حتى تجدا طريقًا في النهاية تسيران فيها معًا وهما أكثر وعيًا بنفسيهم، وبأحدهما بالآخر.
دلالات
المساهمون