لغز رأس المومياء: رجال الاستخبارات أم علماء الآثار؟

16 ابريل 2018
المعرض في بوسطن (الموقع الرسمي للمتحف)
+ الخط -
عندما عثر الرجال العاملون مع عالم الآثار الأميركي المعروف، جورج أندرو، في المقبرةِ المصرية الكبيرة القديمة، دير البرشا، في صعيد مصر، على قبرٍ لم يتمّ اكتشافه بعد، لم يكونوا يعلمون أيّ لغزٍ ينتظرهم، وأيّ قيمةٍ لاكتشافهم ستكون. إذ في 23 إبريل/ نيسان من عام 1915، كانت مجموعةٌ من الباحثين في جامعة هارفرد، تقوم بالحفر على حافّة الصحراء، على بعد حوالي 250 كيلومتراً من القاهرة، في المقبرة المصريّة الجديدة المكتشفة. وكان الباحثون يأملون بأنَّ المكتشفات الموجودة في هذه المقبرة، ستساعدهم على امتلاك فكرةٍ أدق عن حياة المصريين القدماء ونظرةٍ أشمل إليها. احتاج الطاقم إلى 6 أيام من الحفرِ، حتّى وجدوا أنفسهم أخيرًا في حجرة تحوتي نخت Djehutynakht.
 
عندما فتحوا القبر، وجدوا المكان في هيئةٍ كأنَّه مرّ بحربٍ قتاليّة وتدميرٍ عسكريٍّ. وبالفعل، يبدو أنَّ الغزاة الذين اقتحموا القبر في العصور القديمة، قد أخذوا كلّ ما كانوا يعتبرونه قيّماً في ذلك الوقت. ومع ذلك، وجد الفريق مجموعة من العناصر النادرة في تلك الغرفة المكتشفة: عشرات النماذج لقواربَ قيد الصنع، مزهريَّات تحتوي على أحشاء موتى، خشب منحوت بشكلٍ استثنائي ودقيق، تظهر النقوش على الخشبِ موكبًا يبدو أنّه يمثل طقوس تقديم الأضحية والقرابين.

في الغرفة المكتشفةِ كان ثمّة تابوتان خشبيّان، مزيّنان بشكل رائع، ومصنوعان من خشب الأرزق، وهذا يدلُّ على المكانة الاجتماعيّة والطبقية والسياسية الرفيعة لأصحابها. لكن، حتّى مع جثث الموتى في التوابيت، قام الغزاة أو اللصوص أثناء بحثهم في الغرفة بنبش التوابيت وارتكاب مذبحةٍ بحق الموتى. افترضَ العلماء أنَّ الغزاة لصوصُ كانوا يبحثون عن الكنوز التي كان يضعها المصريون القدماء في توابيت المومياءات كما درجت العادة. فصل الغزاةُ رأس إحدى الجثث عن جسدها، وضعوا الرأس فوق التابوت، وألقوا بالجثة على الزاوية، ودمروا كلّ شيء في المكان، ونكّلوا بالجثّتين، حتّى صارتا غير واضحتين وغير كاملتين.

وأكَّد العلماء أنَّ الجثتين تعودان إلى أكثر من 4000 عام، في وقت تم تحقيبه وتسميته في علوم الآثار الحديثة بـ"المملكة الوسطى"، وذلك في عهد الأسرة الحاكمة الحادية عشرة، حينما نجح الفرعون، منتوحب الثاني، في توحيد مصر العليا والسفلى سياسياً وبالقوة، ليشكل إمبراطورية مشتركة. بحسب توضّع الغرفة في المقبرة الكبيرة، سمّى العلماء غرفة القبر بـ10 A، حيث دفن محافظ أحد الأقاليم، تحوتي نخت، مع زوجته. ولكن، مع ذلك، ليس من الواضح ما إذا كان تحوتي نخت الرابع أو الخامس.



اليوم، ترقدُ كلّ المكتشفات التي تمّ إيجادها في غرفة تحوتي نخت، في متحف الفنون الجميلة في بوسطن، في الولايات المتحدة الأميركيَّة، ويعتبر هذا الاكتشاف واحداً من أجمل وأغنى الاكتشافات من المملكة الوسطى في التاريخ الفرعوني. وخاصَّة أنَّ التابوت والنقوش على خشبه والملحقات التي أتت معه، كشفت ودلّت على حرفية فنيّة وتقنيّة عاليةٍ جدّاً كانت موجودةً في ذلك العصر. ولكن، برز سؤال أساسي، ماذا على العلماء أن يكتبوا على رأس المومياء المفصول عن جسده. رغم أنهم لم يعرفوا لمدّة زمنيّة طويلةٍ، ما إذا كان الرأس يعود لتحوتي نخت، (حاكم مصر العليا)، أم لزوجته. لم يؤدِّ علم الفراسة إلى أيّة استنتاجات حاسمة وأكيدة حول جنس المومياء. علاوة على ذلك، حاول العديد من الخبراء، منذُ بدء الاكتشاف، تحديد جنس رأس المومياء المحنّطة، ولكن الجميع فشلوا في ذلك، لأنَّ حالة الجمجمة المحنّطة كانت متدهورةً جدّاً، إذ تعرّضت للتهشيم على يد الغزاة.

أيضاً، لم تسفر نتائج أشعة الطبقي المحوري المقطعيَّة CT، والتي تم إجراؤها في عام 2015 في مستشفى ماساتشوستس عن أيَّة نتائج. لأنَّ الخدين أو عظام الفك السفلي يمكن أنْ تكون مؤشّراً حاسماً إلى هويَّة صاحب الجمجمة الجنسيَّة، ولكن يبدو أنَّ الخدين وعظام الفك السفلي قد أزيلت من قبل الفراعنة بعمليات جراحيّة متقنةٍ قبيل التحنيط، كما أكّد الأطباء. وأشار الباحثون إلى أنَّ هذا طقسُ مصري قديم، إذْ يتم ذلك قبل التحنيط من أجل السماح للحاكم وزوجته بالطعام والشراب في حياة ما بعد الموت. ومن أجل حل لغز جنس الجمجمة الغامضة، كُلِّف موظفو المتحف بإجراء تحليل للحمض النووي الوراثي DNA، لكنّ هذا فشل بشكل سريع لأنّه لا يمكن أخذ عينات مفيدة من الرأس أوّلاً، كما أنَّ الحرارة العالية في الصحراء وإخراج الجثة من التابوت وعامل الزمن، كل ذلك دمر تقريبًا كل المادة الوراثيَّة والتي تسمّى بالجينوم.

لم يبقَ سوى حلُّ أخير كان يتجنّبه المسؤولون عن المتحف، ألا وهو فتحه أمام رجال مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي FBI، إذْ يمتلكون خبرةً في تحليل تسلسل الحمض النووي حتّى لو كان مهشّماً إلى حد كبير. وقالت ريتا فريد، مديرة المتحف، في حديث مع CNN: "أعلم أنَّ هذه الخطوة غير عادية وربّما غير محببة، ولكنّ هذه الخطوة غير العادية جلبت النجاح لنا".



قبيل تدخّل مكتب التحقيقات الفيدرالي كان العلماء قد أخذوا سنّاً من رأس المومياء، لأنَّ أملهم كان أن يجدوا مادّة وراثية كاملة، إذ إن طبقة المينا السنية القاسية، عادة، تحمي المادة الوراثية، لكنّهم فشلوا في هذا الأمر. خبراء الـFBI اقترحوا نسيان الحمض النووي الوراثي الأساسي DNA والذي توجد نسخة واحدة فقط منه في نواة كل خلية، واقترحوا البحث عن mtDNA، وهو الحمض النووي الذي توجد نسخ كثيرةٌ منه في سيْتوبلازم الخليّة وليس في نواتها، وهي مسؤولة عن نقل الأوامر من النواة إلى أجهزة الخليَّة. إذْ بسبب النسخ الكثيرة من mtDNA، استطاع رجال المخابرات إعادة بناء الحمض النووي الأساسي DNA الموجود في النواة، وذلك بآلية التوقع عن طريق تحليل أعدادٍ هائلة من mtDNA، ووصلوا إلى نتائج مثيرة بعد أنْ بنوا الجينوم البشري كاملاً. في مؤتمر صحافي قبل أيام، قال عالم الطب الشرعي، لوريل، الذي يعمل مع FBI، إنَّ رأس المومياء يعود للحاكم تحوتي نخت، وليس لزوجته، وختم كلامه قائلاً: "تستطيعون الآن أن تضعوا العبارة المناسبة على الرأس في المتحف للزائرين".
المساهمون