فنّيات متواضعة لحبكة متماسكة: اضطرابات نفس وصُور

03 ابريل 2019
"مُحطِّمة النظام" لا ترغب في إفشاله (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
يُفترض بالأنظمة الطبية أن تكون على قدر من البساطة والمرونة، لتأدية دورها المهم في خدمة المرضى. لكن، عندما تعجز عن تقديم العون لحالة واحدة، لا بدّ من التصدّي لها، لتبيان مدى فاعليتها ونجاحها في العلاج. "مُحطِّمة النظام"، أول روائي للألمانية نورا فينغشايدت (1983)، يتناول معضلة "عَقم الأنظمة الوضعية"، وتحديدًا نظام رعاية الأطفال، عند مواجهتها حالات لا قِبل لها بها. خطورة الأمر أن النظام هنا يتعلّق بصحة البشر، وبحالتهم النفسية. الأخطر، كما في الفيلم، أن طفلةً هي التي تُعاني بسبب هذا النظام. 

فاز "مُحطِّمة النظام" بجائزة "الدبّ الفضي ـ ألفرد باور"، في الدورة الـ69 (7 ـ 17 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، التي تُمنح أساسًا لأفضل فيلم يتضمّن فنّياتٍ أو جماليات جديدة في عالم السينما. في الفيلم أداء مُبهر، وسيناريو دقيق للغاية ومحبوك حتى اللحظة الأخيرة، بالإضافة إلى جمال التصوير وضبط الإيقاع وعدم الإطالة، وقوّة الموضوع، هذا كلّه أنتج فيلمًا مُتميزًا، فهو مصنوع بحِرفية بالغة، ويتناول قضية إنسانية مهمّة للغاية. لكن، بالنسبة إلى الجماليات والفنّيات الجديدة التي قدّمها في المجالات السينمائية المختلفة، والتي من أجلها مُنِحَ الجائزة، فهي غير متوفرة فيه.

هناك عُنف وتوتر وانفعال في هذه الدراما النفسية العميقة. هناك أيضًا جرأة في إظهار هذا كلّه من خلال طفلة، إنْ تكن أفعالها ضدّ نفسها، أو ضد غيرها من الأطفال. باستثناء تلك الفنّية الصغيرة، غير المسبوقة كثيرًا في السينما النفسية التي تناولت تلك الشريحة العمرية، لا يملك الفيلم شيئًا آخر. فـ"مُحطِّمة النظام" يعتصر القلوب ويُمزّقها، أثناء التواجد مع البطلة ومشاكلها، لساعتين متتاليتين. فيلم شديد المرارة والقسوة، وفتاة تجعل المُشاهد يتّخذ موقفًا ضد سلوكها، لكنه يُشفق عليها كضحية. كما أن الفيلم مُثير لأسئلة وطروحات كثيرة، ويُدهِش المُشاهد أمام ذلك العجز في ألمانيا، المتقدّمة بشكل بارز، طبيًا وتكنولوجيًا وتعليميًا.

برناديت/ بيني (هلينا زينغل، في أداء مقنع وباهر) تبلغ 9 أعوام. في البداية، هناك حيرة إزاء أمرها وجنسها. لا تكمن مشكلتها في "بلوغها" قبل الأوان، أو أنها في مرحلة مُراهقة باكرة، أو في عدم قدرتها على التكيف، أو في عشقها للتمرّد وكرهها للقيود وحبّها للحرية. هي لا تشارك أنطوان دوانِل (جان ـ بيار ليو)، بطل فيلم "400 ضربة" (1959) لفرنسوا تروفو، عشقه للحرية والمرح والانطلاق وحبّ التمرّد فقط، بل أيضًا افتقاد حنان الأهل ودفء الأسرة. تتقاسم معه الحبّ، أكثر من أي شيء آخر.



أحيانًا، تبدو بيني جميلة ووديعة وبريئة. لكنها تظهر غالبًا كحيوان برّي شارد ومُتعطّش للدماء والعنف. لاحقًا، يُعرَف أن حادثة اختناق كادت تودي بحياتها وهي رضيعة، ما أصابها بصدمة نفسية، تطوّرت إلى نوبات فزع تُخرجها عن طورها، وتُثير هياجها، وتُفقدها السيطرة، وتجعلها عدوانية وعدائية للغاية، فتمارس العنف. بعدما أعيتها الحيلة، فضّلت والدتها بيانكا (ليزا هاغمايستر) فصلها عن شقيقتها، فأدخلتها في نظام رعاية للأطفال، حفاظًا عليهما أولاً، وخوفًا منها ثانيًا. بيانكا هشّة ومضطربة، ومُدانة بلا شكّ. حاولت أن تكون أمًّا مثالية، وأن تُشعِر ابنتها بالحب، وأن تبقيها معها، وأن تتابع حالتها. لكنها تخلّت عنها في النهاية. هي لا تقوى على المكوث إلى جانبها. شخصيتها الضعيفة دفعتها إلى الفرار منها، في أحد أقسى المَشاهد.

تبذل المشرفة الاجتماعية، السيدة بافاني (غابرييلا ماريا شمايدت)، جهودًا مُضنية من أجل بيني، إلى درجةٍ تجعل الآخرين يشعرون كما لو أنها أمها الحقيقية، فهي الوحيدة التي لم تتخلَّ عنها. لكنها تعجز عن منحها حبًّا أموميًا مُفتَقدًا. لذا، يُصبح مايكل/ ميشا هيلر (ألبريشت شوتش) ـ المُدرِّب المُتمرّس في التعامل مع الجانحين والمصابين باضطرابات نفسية وأصحاب الحالات الخاصة، والمُكلّف بمرافقة بيني إلى المدرسة والعودة بها إلى الدار ـ الأمل الأخير لها. تتوطّد العلاقة بينهما بعد نفور وعداء، فتُصبح العلاقة صداقة وتفاهمًا. وكما فعل مع آخرين، يأخذها إلى الغابة، ويُعالجها بطريقته الخاصة في الطبيعة البكر. بعد عناء، تنجح طريقته، لكن بيني تتعلّق به، فتبدأ ـ تدريجيًا ـ بالتسلّل إلى منزله، برغبةٍ في أن تكون جزءًا من أسرته. تحمل رضيعه، وتداعبه وتلاعبه وتحنو عليه. لحظات كثيرة كهذه تُظهر بيني ناضجة وعاقلة ومتّزنة. لحظات تنقلب فورًا إلى نقيضها، فتخطف الرضيع وتعرّضه للخطر، عندما طُلِبَ منها تركه. بيني ليست عنيفة إجمالاً. لكنها، عندما تثور، تؤذي وتُسيل دماء الآخرين، حتى لو كانوا صبية أكبر منها.

لا يرصد "محطّمة النظام" معاناة الأهل وآلامهم إزاء ولادة طفلة كهذه، ولا تبعات المشاكل النفسية والاجتماعية والاقتصادية على الأسرة في ظلّ وجودها، بل يُلقي ضوءًا على أطباء ومُعالجين ومُدرّسين وأخصائيين، يتعاملون مع حالات كهذه ويُعالجون المُصابين بها. يُوضِح ما يكابدونه، لكنه يُبرز أساسًا مدى عقمهم إزاء حالة خارجة عن المألوف أو المتعارف عليه، بالنسبة إليهم. بيني ليست مُحطِّمة لأي نظام. إنها فقط لا تتوافق مع نظم وأنماط اعتيادية ألفها هؤلاء جميعهم.

مُصاب بيني عضوي ونفسي. لا ترغب في إفشال النظام أو تحدّيه. القيّمون على النظام لا يتّسمون بالمرونة والذكاء والبصيرة، وغيرها من الملكات الفطرية المؤهلة لاستيعاب حالة كحالتها. لو فهموا مَطلبها في أنْ تُمنح حبًّا وحنانًا وأمانًا وجوًّا عائليًا، لتمكّنوا من حلّ مشكلتها. المعضلة أن بيني تواجه مُوظّفين يحملون شهادات طبية. وهؤلاء، رغم النيّة الطيبة والرغبة في المساعدة والعلاج، يرون أن حالتها ميؤوس منها، ويرونها مُثيرة للقلق والمتاعب، ويعتبرون التعامل معها مستحيلاً. إنها مزعجة بالنسبة إليهم، في المستويات كافة. هم عاجزون أمامها. لا يدركون كيفية التصرّف مع حالتها. هم جزء من نظام يعجزون عن تطبيقه، لذا لا مناص أمامهم سوى التخلّص من سبب العجز، فيسعون، بالوسائل كلّها، إلى وضع نهاية للمشكلة الضاغطة، فيُرسلونها إلى أفريقيا لإجراء علاجات أخرى لها.
المساهمون