حكواتي : يوم في محكمة شرعيّة

25 أكتوبر 2014
نهارٌ طويل ينتظرك في المحكمة الشرعيّة (Getty)
+ الخط -
أن تقصد المحكمة الشرعية في بيروت، فلا تتوقع أن تنتهي زيارتك في نصف ساعة أو أقل. 
تتوسّط غرفة زجاجية بهو المحكمة الشرعية. ستطوف حولها على المكاتب. ستدخل بورقة واحدة من المفترض أنّها المعاملة التي تقصد إنهاءها، لكنّك ستنهي سعيك هناك بعشرات الأوراق والطوابع البريدية وتواقيع الموظّفين والمشايخ. فأن تقصد المحكمة الشرعية في بيروت، يعني أن تعلم مسبقاً أنّ نهارك سيكون طويلاً... طويلاً جداً. واعلم أنّك ستفقد شيئاً من خصوصيتك الشخصية.

حاجز للتفتيش على بوابة المحكمة وعليه يقف عنصرا شرطة. ثم بالطبقة الثانية يجلس القضاة الشرعيون ومكاتب معاملات الزواج والطلاق وحصر الإرث وغيرها. وتطالعكَ خزانة تحوي "أغطية للنساء". إذ يُمنَع دخول المرأة السافرة إلى حرم المحكمة.

يقترب رجل أنيق من موظف المحكمة. يتكلّم بصوت منخفض، فينفعل الموظف ويصرخ: "يريد الرجل مقاضاة زوجته التي تزوّجت مرتين وهي على ذمّته بعدما تركته وغادرت البلاد". هو رجل آخر استُبيحت خصوصيته هنا.

تتابع العجوز رحلتها مع الأوراق بوجود الطوابع البريدية هذه المرّة. تسأل رجلا خلف ماكينة التصويت عن قاضي الشرع. يطلب منها انتظار موعد قدومه في التاسعة والنصف. تنظر إلى الساعة المعلّقة في منتصف بهو دائرة تخليص المعاملات في المحكمة. تشير الساعة إلى السادسة والنصف دائماً.

تتعالى الأصوات خارج المكتب رقم 6. إشكال بين رجل وحمويه. تصرخ امرأته: "متل ما إجوا أهلك يطلبوها ليش ما إجا ولا حدا هلّق؟". فيجيب بحدّة: "أنا بدّي طلّق مش هنّي!". يتمتم الشيخ المعني ويكرّر جملة "لا إله إلا الله... كلّ هول الملفات طلاق؟". تضحك محامية على الكنبة المجاورة: "شايف يا شيخنا؟ ما عاد حدا يتحمّل حدا".

عند التاسعة والنصف وقف طابور من المنتظرين أمام الصندوق ولم يأتِ القاضي بعد. قبل العاشرة بقليل دخل أحد الشبّان وتوجّه نحو مكتب القاضي الشرعي وفتحه. صدّ الشاب جموع المنتظرين أمام الباب، وأخبرهم أنّ القاضي لم يصل بعد. تعجّب كهل وسأله: "كيف لم يصل القاضي الذي من المفترض أن يصل منذ الثامنة؟". تقدّم أحد الشيوخ متنهّدا وقال: "أستغفر الله العظيم... أستغفر الله العظيم... القاضي عندو مليون شغلة يا رجل".

هنا دخل عنصر أمن أمام رجلين ضخمين يتوسّطهما القاضي البشوش. ألقى القاضي التحية على الجميع خلال مروره بالمكاتب. لم يفوّت إلقاء التحية على الحشد المنتظر خارج مكتبه. خرج سكرتير القاضي مسرعا وأخذ بتسلم ملفّات الناس. عجزت العجوز عن اللحاق به فطمأنها أحدهم: "دقيقة وبيرجع بيطلع.. عطيه الملفّ بسرعة". فعلا، لم يتأخّر السكرتير.

أدرك الجميع أنّهم قيد رحلة أخرى بين المكاتب. حملوا قضاياهم وساروا يطوفون مجدّدا حول الغرفة الزجاجية. وطلب السكرتير من المرأة العجوز التوجّه نحو الغرفة رقم 2 فتقدّمت منه قائلة: "يا ابني، الله يرضى عليك بسّ بدّي أستفسر من القاضي عن شي". فنهرها قائلا: "وحّدي الله يا حاجة شوعم تحكي؟ هيدا قاضي. والقاضي لا يُسأل ولا يُستَشَار".

بقي رجل واحد خارج مكتب القاضي. انتظر خروج السكرتير ليتسلم أوراقه. قرأ ما دوّنه القاضي عليها فصرخ: "معقول! معقول! زوجتي أخذت الأطفال وغادرت البلاد وأنت تردّ لي الطلب من دون حلّ؟ يا أخي هناك رجل آخر في الموضوع". هنا تقدّم منه شيخ وشدّد: "إيّاك أن ترمي أيّ محصّنة أو تتّهم من دون دليل، ولأجل أولادك لا تتكلّم عن الموضوع هكذا". حينها بدت شرايين رقبة الرجل كما لو أنّها ستتدلّى من رقبته من شدّة الصراخ. وقف أمام الجمع مستغلا العصبية المذهبية التي تضرب لبنان أخيرا، وصرخ: "قول للقاضي رايح أعمل شيعي نكاية فيكن". بدت، وزوجها الذي أصبح قاب قوسين من لقب "السابق"، في غاية التوتّر. نظر إليهما الشيخ مبتسما ثم: "ههههههههه...".
المساهمون