أفلام "كارلوفي فاري الـ54": تعرية صراعات عائلية

05 يوليو 2019
أختان غير شقيقتين: ارتباك وصدام (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
"صدامٌ عائليّ، ينتهي بنوع من المصالحة". عنوانٌ يختزل المضمون الحكائيّ لفيلمين جديدين (إنتاج 2019)، يُشاركان في المسابقة الرسمية للدورة الـ54 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/ تموز 2019) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي". الأول بعنوان "الأب" للبلغاريّين كريستينا غروزيفا (1976) وبيتار فالكانوف (1982)، والثاني بعنوان "أختان غير شقيقتين" للسلوفيني دامجان كوزولي (1964). الأول يتناول العلاقة المرتبكة بين أبٍ وابنه، بدءًا من لحظة وفاة الزوجة/الأم؛ والثاني يغوص في اضطراب العلاقة بين أختين من أبٍ واحد، المتأتي من اضطراب العلاقات بين كلّ أختٍ منهما ووالديها. الأول محصورٌ في صدام حاصل بين الأب وابنه، الذي ينتظر مولودًا هو الأول له؛ والثاني مهمومٌ بكشف تناقضات حادة بين الأطراف كلّها في العائلة الواحدة، مع تشعّبات معنيّة بتفاصيل خاصّة بكل طرفٍ.

رغم قسوة الصدام بين أهلٍ وأبناء، يمتلك "الأب" طرافةً في لقطات مختلفة، وإنْ تكن عابرة وقليلة، وهذا يتناقض مع علاقة "أختان غير شقيقتين"، التي تمرّ فيه ثوانٍ قليلة تُثير شيئًا من الضحك الساخر. لكنّ هذا كلّه لن يحول دون حيوية النص والمعالجة والسرد والاشتغالات التقنية. فالمأزق الدرامي الأصليّ للحبكتين حاضرٌ في المشاهد كلّها، ومصائب الشخصيات تكشف اهتراءً وخللاً في العلاقات العائلية، والضحك الساخر جزءٌ من تفاصيل تساهم في بلورة الحكاية ومساراتها، وفي تحديد المصائر ونهاياتها، وإنْ تكن النهايات معلّقة، فالحلول الثابتة غير حقيقية، في عالمٍ يتغلّب عليه سوء تفاهم وتمرّد فرديّ وتوترات وإشكاليات، في جوانب مختلفة من الحياة اليومية. 

وإذْ يتحرّر "الأب" من تلميحات سياسية وطائفية، لانهماك الشخصيتين الأساسيتين بشؤون فردية بحتة، تنتج من رحيل الزوجة/الأم، مع أنها امتداد لارتباكات سابقة على الرحيل، كما تلمّح إليه لحظات عديدة بين الأب وابنه؛ فإنّ تعليقات قاسية وصائبة وواقعية، تقولها الأختان غير الشقيقتين مرارًا، في لحظات قليلة، تتناول أصلي الوالدتين، فإحداهما سلوفينية والثانية ألبانية. لكن التعليقات تُقال بشكلٍ متلائم للغاية مع حدّة الصدام بين الطرفين، من دون تصنّع أو ادّعاء، فهذا جزءٌ من لغة يومية لأناسٍ كثيرين.

يبدأ "الأب" من لحظة دفن الزوجة/الأم، ومع البداية هذه يظهر التوتر الحاصل بين الأب وابنه. الأول يريد التقاط صُوَر فوتوغرافية للراحلة، قبل إغلاق التابوت في نهاية مراسم الجنازة، فيرتبك الابن غير المُدرك تمامًا إنْ يكن هذا جائزًا أم لا. تختلف بداية "أختان غير شقيقتين" تمامًا: إحداهما تعمل مُصفّفة شعر في صالون للتجميل. عند انتهاء دوامها، تتوجّه إلى منزل والدتها، حيث تظهر ملامح كثيرة من العلاقات المعطّلة، وبعض ارتباكٍ وكراهية وخيبات. المسارات المفروضة على الأب وابنه بعد الجنازة، تبدو كأنّها رحلة للاغتسال من ماضٍ ونفور وابتعاد، وهذا يُشبه مسارات الأختين غير الشقيقتين أيضًا، إذْ إنّهما تغتسلان من أدرانٍ ومصائب وتمزّقات، رغم قسوة "المطهر" اللتين تمرّان به، كذاك "المطهر" نفسه الذي يمرّ فيه الأب وابنه.
لكن "الأب" يرافق الأرمل في هذيانٍ ينتج من صدمة الموت ورفض الحِداد. فالأب المفجوع بموت زوجته "يظنّ" أنّ الراحلة تناديه من القبر، خصوصًا أنّ قريبة للعائلة تتوهّم أنّ الراحلة نفسها تتصل بها هاتفيًا، قبل أن يتبيّن لاحقًا سبب تلك الأوهام. فالاتصال الهاتفي حاصلٌ قبل دخول الزوجة/الأم إلى غرفة العمليات لإجراء جراحة تؤدّي بها إلى الموت، فهي راغبةٌ في الاتصال بزوجها المنهمك بأمورٍ تنمّ عن أنانيته، ما يُغضِب الراحلة قبل موتها. هذا كفيلٌ بدفع الأرمل إلى تخوم الألم، لأنه غير عارفٍ بما تريده امرأته منه. ولشدّة الفجيعة، لن يتردّد الأب عن الانخراط في تمارين روحانيّة، فيها احتيالات كثيرة، كي يتمكّن من معرفة الحقيقة. 

أما "أختان غير شقيقتين"، فتبقيان واقعيتين للغاية، وهذا ينكشف في حوارات وتصرّفات ومسالك ومواقف، تفضح تفاصيل كثيرة من ماضيهما، وتذهب بهما إلى مصالحة متنوّعة الأشكال: مصالحة مع الذات والآخر، وهذا الأخير يكون أختًا وأبًا وأمًّا. مُصالحة غير مُنجزة كلّيًا، لكنها بداية مسار جديد في حياتهم جميعًا. ولعلّ هذا ما يصنع جمالية إضافية، إذْ تنتهي المسارات في لقطات توهم أنها "حل منشود"، بينما الواقع مختلف، فهو يتوافق وهذه النهايات، أو ربما يُناقضها.

ينتهي "الأب" بصورة متناقضة مع بدايته. فالبداية معقودة على جنازةٍ تُدفن الزوجة/الأم خلالها، بينما النهاية ـ التي يتواجه فيها الابن مع أبيه في صفاء وروية، بعد مسارات حادة ومشحونة بغضب وصدام وانفعالات سلبيّة ـ ترتكز على بوحٍ بسيط ومتواضع وهادئ للابن، الذي يُخبر والده بأنه، هو الابن، سيُصبح أبًا. أما فيلم دامجان كوزولي، فيبدأ في "صالون للتجميل"، حيث تعمل إحدى الأختين غير الشقيقتين، ثمّ يمرّ وقتٌ طويل نسبيًا قبل ظهور الأخت الثانية. لكن النهاية تجمع إحداهما بالأخرى على شاطئ البحر، بعد صراعات ومناكفات وتعرية ذات ونفس وروح، تؤدّي كلّها إلى ما يُشبه تلك المُصالحة المنشودة، وإنْ تكن معلّقة.
المساهمون