معوقات نجاح الجهود الدولية لاحتواء الأزمة الأوكرانية

22 فبراير 2015

جنود أوكرانيون على جبهة القتال عقب إعلان الهدنة (15فبراير/2015/Getty)

+ الخط -
لتوضيح أبعاد الأزمة الأوكرانية، يحسن استدعاء ما جاء في بنود اتفاقية بودابست 1994، والتي بموجبها وافقت أوكرانيا على التخلّي عن أسلحتها النووية لصالح روسيا، كما ورد في تلك الاتفاقية لنزع السلاح النووي، على أن تضمن الولايات المتّحدة الأميركية وبريطانيا وروسيا الفيدرالية وإيرلندا الشمالية أمن وسلامة كامل أراضي جمهورية أوكرانيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم. ومن أهم نقاط الاتفاقية:

•تؤكّد الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وروسيا الفيدرالية وإيرلندا الشمالية، مجددًا، التزاماتها بشأن أوكرانيا، بما يتناسب مع روح ومبادئ الوثيقة النهائية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، للحفاظ على استقلال أوكرانيا وسيادتها على كامل أراضيها وحدودها المتعارف عليها.

•تؤكّد الدول الأربع التزامها بعدم اللجوء للتهديد، أو استخدام القوّة ضدّ السيادة الكاملة للأراضي الأوكرانية، والحفاظ على استقلالها السياسي، وتؤكّد أنّ الدول المعنية لن تستخدم سلاحها ضدّ أوكرانيا، باستثناء حالات الدفاع عن النفس، أو لدوافع أخرى، حسب ميثاق هيئة الأمم المتحدة.

•تؤكّد الدول الأربع التزاماتها بشأن أوكرانيا، بما يتناسب مع روح الوثيقة النهائية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا ومبادئها، وتضمن عدم اللجوء إلى استخدام الضغوط الاقتصادية، لتحقيق أهداف وأولويات مختلفة.

•تلتزم الدول الأربع اللجوء إلى مجلس الأمن في هيئة الأمم المتحدة، لتقديم الدعم والمساعدة لأوكرانيا، بعد تخليها عن أسلحتها النووية، وبصفتها عضواً في اتفاقية نزع السلاح النووي، إذا أصبحت أوكرانيا ضحية لاعتداء، أو لتهديدات قد تتّخذ طابعًا نوويًا.

هذه بعض النقاط التي وردت في اتفاقية بودابست، ويتم التذكير بها، هنا، ردًا على كثير ممّا ورد بشأن حقوق روسيا الفيدرالية التاريخية في شبه جزيرة القرم، والدفاع المستميت عن مصالحها في الدولة الجارة، أوكرانيا، والتدخّل المتواصل في قرارها السياسي، وسيادتها على كامل أراضيها، كما ورد في اتفاقية بودابست التي صادقت عليها، آنذاك، روسيا الفيدرالية. فهل أخطأت أوكرانيا وروسيا البيضاء في العام 1994 بالتنازل عن القوّة النووية لروسيا في مقابل ضمانات تبدو وهمية، في ظلّ حالة الصراع والاقتتال المقيت الذي قد يؤدّي إلى تقسيم أوكرانيا، والإبقاء على حالة القلق والترقّب في روسيا البيضاء، كي لا تتكرّر هذه المأساة مجدّدًا لديها.

يبدو التحرّك الألماني، وبذل الجهود الحثيثة لإيجاد حلول سلمية للأزمة الأوكرانية، لافتًا للأنظار، مقارنة بما جاء في اتفاقية بودابست، وتوقّع التدخّل الأميركي والبريطاني وهيئة الأمم المتحدة، بوتائر تفوق الدور الألماني الذي نشهده في الوقت الراهن، وهذا ما سنتناوله لاحقًا. تجدر الإشارة إلى أنّ المؤتمرين لم يشترطوا تناول ملف شبه جزيرة القرم، ولو فعلوا ذلك لفشل المؤتمر، قبل انعقاده، لرفض روسيا التطرّق للقرم، باعتباره جزءاً من الأراضي الروسية.


دور ألماني رائد
خلال عشر سنوات، تمكّنت ألمانيا من احتلال دور قيادي دولي، بعد تولّي المستشارة أنجيلا ميركل مقاليد السلطة في ألمانيا، وسرعان ما أصبحت ألمانيا المحرّك للمنظومة الأوروبية والعامل المشترك الذي يصعب تجاهله في هذه الحقبة القصيرة. لهذا الدور بعد تاريخي، يمتد إلى مرحلة انهيار الاتحاد السوفييتي وانشغال روسيا بترميم الدمار الذي لحق بها إثر الانهيار، ما أدّى إلى تراجع المخاوف من التبعات التي رافقت العقيدة النازية، وعدم الشعور بالقلق تجاه ألمانيا ذات الفكر الأوروبي الديمقراطي. لذا، وجدت ألمانيا نفسها في وضع مريح في الساحة الدولية، مكّنها من الحصول على الدور القيادي الأوروبي.

من هذا الموقع، تمكّنت المستشارة ميركل، برفقة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، من عقد مؤتمر للسلام في أوكرانيا بتاريخ 12 فبراير/شباط الجاري، ضمّ ألكسندر لوكاشينكو رئيس الدولة المُضيف روسيا البيضاء والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأوكراني بترو بوروشينكو في صالة واحدة ووجهًا لوجه، ومن الممكن، بالطبع، ملاحظة القلق والتوتر الذي صاحب المواجهة ما بين بوروشينكو وبوتين الذي كسر قلم الرصاص الأخضر بين يديه.

وثيقة "مينسك 2" التي يعتبرها كثيرون بمثابة الفرصة الأخيرة لتحقيق السلام صعبة للغاية، وعلى الرغم من المصادقة عليها، إلا أنّ تنفيذها يبدو أصعب بكثير. وبدلاً من ظهور المستشارة ميركل بمظهر التألق والاعتداد بالذات، بدت مرهقة، وصرّحت بأنّ الاتفاقية لوقف القتال في قطاع دونيتسك ولوهانسك في شمال أوكرانيا مجرّد بصيص أمل، ولا شيء أكثر من ذلك. اتفاقية مينسك الثانية تعجّ بالفجوات والفقرات غير الواضحة، والشروط التي تحتمل تأويلات كثيرة. وإمكانية نجاح الاتفاقية لا تزيد عن إمكانيات معاهدة مينسك الأولى التي أغرقت بالدماء، بعد تفجّر الأوضاع في دونيتسك، وها هي الأنباء تشير إلى استمرار إطلاق النيران، على الرغم من بدء صلاحية اتفاقية مينسك 2 مع بداية الخامس عشر من فبراير/شباط 2015، علمًا أنّ الأحداث الدامية أودت بحياة 263 شخصًا بين 31 يناير والخامس من فبراير. وتشعر أوكرانيا بأنّها في مهب الريح، ولدى القادة قناعة بتخلّي الاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة عنها، في وقت نجح فيه الزعيم الروسي بوتين بتأجيل فرض مزيد من العقوبات ضدّ بلاده، ومنع تزويد كييف بالسلاح من دون تقديم تنازلات حقيقية على أرض الواقع.

ليس متوقعاً وقف إطلاق النار بشكل كامل، كما جاء في بنود الاتفاقية، وكما صرّح وزير الخارجية الأوكراني، بافلو كلينكين، في صوفيا قبل أيام، فإن روسيا تمسك زمام الحلّ، وبيدها حقيقة وقف تسليح المنشقين الموالين للكرملين. وأفاد الوزير بأنّ بلاده تدعم الجهود المبذولة لرفع مستوى الليبرالية والممارسات الديمقراطية في الأقاليم المطالبة بالانقسام والاستقلال بقرارها السياسي عن كييف، لكنّه يرفض، جملة وتفصيلاً، الصيغة الفيدرالية للسلطة في الأقاليم المعنية، لأنّ هذا يعني تكريس عملية الانشقاق عن أوكرانيا. وأضاف أنّ كييف لا تزال تقدّم المساعدات، وتزوّد المناطق المنكوبة بالماء والكهرباء مجانًا، باعتبارها جزءًا من أوكرانيا، بعد إفلاس الأقاليم المعنية، وعدم قدرتها على استمرار الحياة الطبيعية بشكل منفصل.


نقاط رئيسية في اتفاقية مينسك الثانية

- الوقف الشامل والفوري لإطلاق النار في إقليمي دونيتسك ولوهانسك في أوكرانيا، والالتزام بدقّة بدءًا من الساعات الأولى من 15 فبراير 2015 بتوقيت أوكرانيا.

- انسحاب الآليات الثقيلة من الجهتين، وعلى مسافة متساوية، بهدف التأسيس لمنطقة آمنة على طول 50 كلم ما بين الأنظمة المدفعية عيار 100 ملم، وإيجاد منطقة معزولة آمنة، بعرض 70 كلم للأنظمة الصاروخية الراجمة للنيران، وبعرض 140 كلم للأنظمة نفسها من طراز "تورنادو - س"، "Oragan - الإعصار"، "Smirch - التنوب" وأنظمة الصواريخ التكتيكية.

- اعتبارًا من اليوم الأول لوقف النار، يبدأ حوار لعقد وتنظيم انتخابات محلية على الفور، وفي فترة لا تتجاوز 30 يومًا، بعد المصادقة على هذه الوثيقة، والتوصّل إلى قرار من البرلمان الأوكراني، لتحديد الأراضي التي ستخضع للنظام الخاص، في كل من إقليم دونيتسك ولوهانسك.

- ضمان إصدار قرارات للعفو الشامل من خلال قانون، يمنع معاقبة وتهجير المواطنين والأشخاص المتورطين في الأزمة المشتعلة في إقليم دونيتسك ولوهانسك.

- إعادة السيطرة الكاملة على الحدود الدولية للحكومة الأوكرانية في كامل منطقة النزاع، على أن يبدأ ذلك في اليوم الأول الذي يلي عقد الانتخابات المحلية، والانتهاء من ذلك، بعد الترتيب النهائي للأوضاع السياسية (انتخابات محلية في إقليم دونيتسك ولوهانسك، بناءً على القانون الرئيس في أوكرانيا، وبناءً على نصوص الدستور المعدّل) حتى نهاية العام 2015.

- إخلاء القوات والتشكيلات الأجنبية، الآليات العسكرية والمرتزقة من الأراضي الأوكرانية، برقابة منظمة الأمن والتعاون الأوروبية. نزع سلاح المنظمات غير القانونية.

- إجراء عملية إصلاح للدستور الأوكراني، ليصبح ساري المفعول حتى نهاية العام 2015. دستور جديد يصبح بمثابة عنصر رئيس في السلطة اللامركزية (يأخذ بالاعتبار خصوصية إقليم دونيتسك ولوهانسك وبالتنسيق مع ممثلي القطاعين)، واعتماد تشريع دائم للوضعية الخاصة لكلا الإقليمين.


فشل تطبيق بنود الاتفاقية
أعلن الطرفان المتنازعان في شمال أوكرانيا رفض سحب الأسلحة الثقيلة من ساحات القتال، ما يعني وقف المضي في تنفيذ بنود هذه الاتفاقية حتّى النهاية. بدايةً، أعلن المنشقون أنّ الظروف لا تسمح بالقيام بهذه الخطوة المصيرية لوقف القتال، وسرعان ما أطلقت القوات الأوكرانية الرسمية تصريحات مشابهة، وأعربت عن عدم استعداد قواتها للتراجع.

تتمثّل نقطة الخلاف في "ديبالتسيفو"، المدينة الصغيرة ذات البعد الاستراتيجي، وتمثّل مركز تجمّع سكك الحديد، عمليًا يحاصر المتمردون والمنشقون عن كييف المقاتلين الأوكرانيين في تلك المنطقة، وتعدادهم 2000 – 7000 مقاتل. وقد اقترح المتمردون، بدايةً، فتح ممر آمن لمرور المقاتلين، على أن يضعوا السلاح قبل ذلك، لكن كييف رفضت على الفور المقترح، لأنه ووفق اتفاقية مينسك تعدّ هذه المنطقة جزءًا من الأراضي الأوكرانية. وطالب إدوارد باسورين الذي أعلن نفسه نائب وزير الدفاع لإقليم دونيتسك، ومن موقع القوّة، إخلاء الجنود الأوكرانيين المدينة على الفور بعد نزع السلاح، ولن يتعرضوا للأذى، ولن يتم التعامل معهم كأسرى حرب، ليضمّ الاتحاد الأوروبي اسمه، بعد هذه التصريحات ضمن القائمة الجديدة للمعاقبين اقتصاديًا.

رفض المتمرّدون تمكين مراقبي منظمة الأمن والتعاون الأوروبية من دخول مناطق القتال، باعتبار أن الاتفاقية لا تشمل مدينة ديبالتسيفو. وأكّدت واشنطن أنّ روسيا تدعم المنشقين بالعتاد والسلاح، للإبقاء على سيطرتهم المطلقة على المدينة، واكتفى مستشار الكرملين، يوري أوشاكوف، بالتلميح إلى أنّ الأوضاع في شرق أوكرانيا أفضل ممّا كانت عليه قبل معاهدة مينسك. وتشهد المدينة التي تزود دونيتسك بالفحم الحجري، وغيره من موارد الطاقة، تفوّقًا عسكريًا للقوات المنشقة، وتؤكّد ذلك الريبورتاجات التي تبثّها قناة التلفزة الروسية الحكومية الأولى، التي أظهرت أسر 72 مقاتلاً أوكرانياً، في الوقت الذي يتحدّث فيه المنشقون عن أسر نحو 300 مقاتل. واعترفت كييف بأسر نحو 100 مقاتل. لكن، وبغض النظر عن هذه التفاصيل، تبدو الأزمة عصية على الحلّ في الوقت الراهن، رغمًا عن اعتماد مجلس الأمن يوم الثلاثاء الموافق 17 فبراير 2015 قرارًا بالإجماع، يؤيّد حزمة التدابير المتّخذة لتنفيذ اتفاقية مينسك للسلام في أوكرانيا.

وعودة إلى ألمانيا المحرّك للقافلة الأوروبية، سعت إلى إقناع الولايات المتحدة الأميركية بأنّ رفع التوتّر والاقتتال في أوكرانيا لن يؤدّي إلى حلّ القضية. ويدرك الأميركيون، بدورهم، ذلك جيّدًا، لكنّهم يعلمون أيضاً أنّ التراجع يعني تشجيع روسيا على تأويل هذا الموقف، فرصة سانحة لمواصلة تقدّمها للسيطرة، والتدخّل في الأوضاع الداخلية في أوكرانيا. وليس متوقعاً أن تخضع أميركا لمطالب ألمانيا بالتراجع عن التصعيد العسكري في أوكرانيا، ومواصلة الضغط على روسيا. زاد من القناعة الأميركية عدم تقديم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أيّة تنازلات، أو وعود بوقف دعمه المنشقين في شرق أوكرانيا. وهو يسعى إلى الحصول على التزام الغرب بالموافقة على نظام للحكم الذاتي في الأقاليم المعنية، وإذا ما تمّ ذلك، ستصبح الأقاليم المعنية بؤرًا تفتّ في عضد الدولة الأوكرانية. وتشير الأحداث كذلك إلى أنّ ألمانيا قوية، إلى حدّ لا يمكن تجاهلها، وضعيفة إلى حدّ لا يمكّنها من فرض إرادتها. وحاولت ألمانيا، في أكثر من مرحلة، رفع قوّتها لفرض إرادتها السياسية. لكن، ليس لديها هذه الرغبة في الوقت الراهن، بما يتعلق بالصراع الدائر في شرق أوكرانيا، ليبقى هذا الملف رهنًا للإرادتين، الروسية والأميركية.

59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح