تمبكتو: جوهرة أفريقيا ووجعها

11 يناير 2015
مكتبات الصحراء، تمبكتو (Getty)
+ الخط -
كانت القارة السمراء بالنسبة للأوروبيين، ولقرون طويلة، مجرد غابات وأحراش أو صحارٍ خالية من الحضارة والمعارف والتاريخ، قبل دخول الرجل الأبيض، وسكانها أناس متوحشون. وهذا الانطباع المتخيل والفوقي يفنده مؤرخون كثر، ومن بينهم المؤرخون المسلمون الذين عرفوا القارة عن كثب، من أمثال ابن حوقل، والبكري، وابن بطوطة، والوزان، الذين استطاعوا دخول القارة المنيعة والتجول فيها، ثم الكتابة عنها وعن شعوبها.

هذه الكتابات هي الأولى والريادية في التأريخ للقارة الأفريقية، والتي لولاها ما عرف المؤرخون ماضي أفريقيا القديم، حيث أضحت مرجعا وبرهانا يقدمه أبناء القارة اليوم أمام العالم، ليؤكدوا به أنهم ليسوا أبناء قارة مجهولة. وقبل سنوات، قام الفيزيائي الفلكي الجنوب أفريقي "تيبي ميدوبي"، بما قام به غيره من الأفارقة المنبرزين لكتابة التاريخ، ولبرهنة وجود المعارف في هذه القارة. واجتهد في إثبات أن الأفارقة اشتغلوا بالعلوم والمعارف كغيرهم من الشعوب في وقت مبكر. ما حمله على الانطلاق من جوهانسبرج في أقصى الجنوب إلى تمبكتو في أقصى الشمال، والتي أراد أن يبرهن، عبر مخطوطاتها، أن الأفارقة عرفوا الفيزياء وعلم الفلك منذ وقت مبكر، بل وسبقوا الكثير من الشعوب المتحضرة.

ولم يكن أمام ميدوبي أي وسيلة لدحض الزعم الأوروبي، إلا الانطلاق إلى واسطة العقد بين الحضارات، تمبكتو حيث رسخّت العلوم والمعارف وكل الفنون منذ ما يقارب عشرة قرون. وهنالك وقف وفتح صناديق المخطوطات التي استخرج منها ما يتعلق بتخصصه في علم الفلك، ليؤكد، من خلال رحلة طويلة في تفحصها وترجمتها وتدقيقها، أن الأفارقة، وعبر أفريقيا، لم يعرفوا هذا العلم فقط، بل أبدعوا فيه، وامتلكوا ناصيته أكثر من غيرهم، وفي وقت مبكر جدا.
ولقد قام الدكتور ميدوبي بتأكيد ذلك، عبر فيلم وثائقي شيق، حمل اسم "علماء الفلك في تمبكتو"، أكد فيه، عبر مخطوطاتهم الحاذقة التي وصلوا إليها، في تحديد الوجهات، وخارطة النجوم، وحركة المجرات بما يتفق مع العلم الحديث بدرجة مذهلة.

ومن خلال ما قام به هذا الباحث المتخصص في الفيزياء، يمكن لأي باحث اليوم إثبات أهمية مخطوطات تمبكتو، وحضارتها، ورسوخ قدمها، من خلال قراءة المجلدات الستة التي تروي جزءا من تاريخ مخطوطاتها التي لم تستثن علما من العلوم.

فرغم ما عرفت به تمبكتو من أنها وريثة غرناطة في العلوم، فإن أهلها وجامعاتها التي جاوزت الخمسين في أوج ازدهارها، درست جميع المعارف، بدءا بعلوم القرآن والفقه، وانتهاء بالهندسة والفلك والكيمياء.

هذه العلوم التي بقيت، ولا تزال، مهددة حتى اليوم، لم يعرف حتى أهلها أو من ورثوها من الكثير، فضلا عمن ليس من المنطقة أصلا.

وفي المجلدات التي قامت مؤسسة الفرقان، ومقرها لندن، بنشرها، استطاع الباحثون تحديد قرابة تسعة آلاف مخطوط فقط في مكتبة أحمد بابا التمبكتي، التي تعد المكتبة الرسمية التي قامت السلطات بجمعها. لكن ما لا يعرفه كثيرون، أن ما يمتلكه ورثة المخطوطات مثل "السيد الشريف" يبلغ أضعاف هذا العدد، والذي تمكن، بفضل مساعدة بعض الجهات الدولية، من بناء مكتبة لمخطوطاته، ومركز لترميمها. وبعد سنوات طوال من الدعم السخي، استطاع توثيق نحو خمسة آلاف فقط من مخطوطاته التي لا تُحصى، مثله مثل آخرين لا تزال مخطوطاتهم حبيسة الصناديق، مهددة فيها بالتآكل والتلف.

ورغم دخول المنطقة في عصر الحداثة، والتأليف والنشر، فإنه من المعروف أن أكثر ما يقلق القائمين على هذه المخطوطات هو عزوف الباحثين ومراكز التعليم الدولية عنها، فلم تتقدم أية جهات بأي مقترح لتحقيق أو نشر أي شيء منها، رغم ندرتها وتميزها.

وكان بإمكان الكثيرين أن يمضوا على خطى الدكتور ميدوبي، الذي استطاع برهنة تميز مخطوطات تمبكتو وفرادتها في سياقها التاريخي. ومن المعروف أن أبناء المنطقة من العرب والطوارق والسنغاي وغيرهم، لا يزالون مهتمين بالتأليف والتعليم، إلا أن كتاباتهم لا تزال رهينة الصناديق أيضا، ولم ينشر منها شيء حتى الآن. ولعل آخر هؤلاء الكتاب مؤرخ بارع اسمه التعتيق سعد الدين، والذي كتب تاريخ الصحراء الكبرى وقبائلها منذ فجر الإسلام وحتى قرننا هذا. لكن الكتاب مثله مثل غيره، لم يكتب له النشر.

تهديدات وأخطار

ليس ثمة مبالغة في وصف ما يحدث في تمبكتو بالمأساة، وهي لا تعود فقط إلى التصحر الذي يطوق المدينة ويلتهمها ويهدد آثارها، وليس أيضا بسبب المعاناة الاقتصادية التي تعيشها مالي، رغم أن الأمرين يساهمان حتما في الحالة المأساوية التي تشهدها المدينة التاريخية. لكن، وبعد عقود من إهمال السلطات في مالي للمدينة الجوهرة، التي استحال وجهها المُشرق إلى شحوب محزن، جاءت مؤخرا يد الإرهاب لتكمل جراح المدينة وآلامها، حينما احتلت فصائل إرهابية مسلحة المدينة في السنة قبل الماضية، حيث عاثت فيها فسادا، من خلال هدم آثارها ومعالمها، وإشعال النار في مراكز المخطوطات، التي كادت تدمر، لولا يقظة أهل المدينة. ومدفوعة بالتعصب المذهبي والسلفي، دمرت أضرحة تاريخية كانت شاهدة على تنوع وغنى تمبكتو، وعلى من مر فيها من أئمة وعلماء.

وقوع المدينة، ولو مؤقتا، تحت سيطرة التنظيمات المسلحة وتنظيمات قاعدة بلاد المغرب العربي، يعيد طرح الحديث مجددا إزاء وجوب قيام عمل حقيقي لإنقاذ هذا الموروث المهدد بالضياع. ومن تلك المقترحات ما يراه البعض من ضرورة وضع الأمم المتحدة، من خلال منظماتها، اليد على إرث المدينة، وتحويل همّ الحفاظ عليها إلى مسؤولية أممية، وبناء مقارّ تليق بحفظ وتوثيق ونشر ذلك الإرث، وإنقاذه من العبث الذي يتعرض له بين حين وآخر.

فمخطوطات تمبكتو في النهاية ليست وجدان مدينة الرمال، بل وجدان كل أفريقيا. فقد كانت المدينة، وعبر قرون طويلة، قبلة لشتى طلبة العلم من جميع أطراف القارة التي وصلتها شمس الإسلام. وهنالك، أي في مساجد ومحاظر تمبكتو التاريخية القائمة إلى اليوم، درست أجيال عديدة أنواعا عديدة من الفنون والمعارف، وتخرجوا وكتبوا وصنفوا في شتى العلوم.

تمبكتو كانت جامعة كبرى عاشت فيها كل الأجناس الأفريقية والعربية جنبا إلى جنب، وحدث فيها أكبر تمازج يمكن أن يحدث على وجه الأرض، ذلك التمازج الذي أنتج فيها واحدة من أروع الحضارات النادرة، المهددة اليوم بالضياع والاندثار.

"رجالها الزرق" و"طبيبها"

الكتابات العربية عن تمبكتو قليلة، وأهمها حديثا ما نشره الكاتب والروائي الطوارقي، عمر الأنصاري، الذي نشر عام 2006 كتاب "الرجال الزرق: الطوارق، الأسطورة والواقع"، وعام 2011 رواية "طبيب تمبكتو". مناخات الكتابين متشابهة: حزينة ومريرة، لكن جبهة أناسها مرصّعة بالكبرياء. في "الرجال الزرق" نقرأ:

"...ففي يوم وقوع مجزرة تمبكتو حدس الطبيب عثمان قرب المجزرة، فتسلل إلى خارج المدينة مع زوجته وابنتيه الصغيرتين. وما كادت العائلة الصغيرة تقطع ساعتين متواصلتين من المشي في فيافي الصحراء، حتى غلى رأس الطبيب الشاب وأصابه دوار أفقده القدرة على الحركة. حاول الاحتماء بظل شجرة صغيرة، ما كادوا يصلون إليها، حتى فارقت إحدى الصغيرتين الحياة، وأخذت الأخرى تنازع الموت.

أما الزوجة فكانت أحسن حالاً من زوجها الذي ذهب في غيبوبة كاملة. وظلا كذلك حتى مر عليهما اثنان من الناجين من المجزرة في المساء، ومعهما قليل من الماء. وعندما سقيا الطبيب أخذ في التقيؤ الذي استمر حتى تردّت حالته، ليسلم روحه بعدها بساعتين تقريباً. وبعد وفاته بساعة ماتت الابنة الأخرى الباقية على قيد الحياة...". يأتي الموت الرخيص ليلتهم هؤلاء الملثمين بالنبل من يوم أن انفتح تاريخ على هذه الأرض. ملثمون بأزرق الكبرياء: في عيونهم وإليها تبرق حدة الصحراء. ومن عمقها فيض الصنهاجيين يزنر الأفق بشفاف رباط يمني أندلسي أحمر. من رحم أساطير ملكات الجن، وفراعنة النيل، وأمراء الخيل والليل والبيداء، نسجوا لثاماً لا يُعرَفون إلا به. إن سقط واحدهم في المعركة وانزاح عنه اللثام، كان عليهم أن يوشّحوا وجهه به ثانية؛ كي يتعرفوا عليه. عندما سقط عثمان وابنتاه في لظى الحر وسط الرمال الحارقة في شمال مالي، سقط لثام طارق بن زياد، من يُنسب إليه الطوارق كما تقول بعض المرويات. ابنتا عثمان ما صلّى عليهما أحد. كان الكل، على امتداد انحناءات الضاد وما تلاها، مشغولين بالتفاهة. أهو وداع الكبرياء يا سادة الكبرياء؟ أم هو الدم يتبعثر رخصاً في هذه الصحراء بين حدي الماء؟ أم هي مفارقات الأقدار والأزمان تأبى إلا أن تعاقب النبلاء؟ فهؤلاء السادة الكبار، وبخلاف احتقار البدو للأنثى، كانوا الأنبل لأنثاهم. نسبوا أنفسهم لها، وتسموا باسمها، فهي عندهم أصل الكون.
دلالات
المساهمون