أسماء السكوتي.. حِيلة لاستعادة مقامات الحريري

02 اغسطس 2024
مشهد من مقامات الحريري في منمنمة لـ الواسطي تعود إلى القرن الثالث عشر (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **تقديم المحاضرة وأهمية المقامات**: قدمت الباحثة أسماء السكوتي محاضرة افتراضية حول "لماذا يجب علينا قراءة مقامات الحريري في القرن الواحد والعشرين؟"، مشيرة إلى تعريف المقامة كحكايات متخيلة مسجوعة تتابع شخصية محتال بليغ.

- **إسهامات الحريري في المقامات**: أوضحت السكوتي أن الحريري أضاف بنية سردية واحتفاء بالغموض في المقامات، مشيرة إلى أن البحث الأكاديمي لم يهتم بإطار الغربة والغرابة فيها.

- **دعوة لاستحضار مقامات الحريري**: حثت السكوتي على استحضار مقامات الحريري، مشيرة إلى أن الاشتغال بالأدب لا يأتي بالمال لصاحبه، لكنها دعت إلى استحضارها لأسباب بنيوية، مع الإشارة إلى أهمية السياق الاجتماعي والسياسي.

كان من المفترض أن تُقدّم الباحثة المغربية أسماء السكوتي محاضرتها "لماذا يجب علينا قراءة مقامات الحريري في القرن الواحد والعشرين؟" وجاهياً، مساء الثلاثاء الماضي في "الجامعة الأميركية" ببيروت، لكنّ أجواء قَتْل الحياة التي يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى فرضها على لبنان، وما أُشيع ليلتها من عدوان مُحتمَل على المطار (وقع بالفعل على الضاحية الجنوبية للعاصمة) أدّت إلى إلغاء رحلتها، فجرى تعويض اللقاء افتراضياً.

انطلقت السكوتي من تعريف المقامة بأنّها "حكايات مُتخيّلة مسجوعة ليس بينها أيّ رابط زمني أو جغرافي، ولكنها تشترك في تفكيرها باللغة، من خلال تتبُّع شخصية مُحتال بليغ ينتقل من مكان إلى آخر، يتبعه راوٍ مفتون بالأدب والفصاحة"، مُنبّهةً إلى أنّ "الحيلة مستبطَنة بلفظة المقامة نفسها، فالمقامة تعني المكوث في حين تحكُم على شخصياتها بالسفر والارتحال. إنّها باختصار حكاية أُذن وقدم". وفي عرضها حكاية المقامات، أحالت الباحثة إلى ترجمة الحريري (446هـ/ 1054م - 516 هـ/ 1122م)، كما أوردها ياقوت الحموي في "معجم الأدباء"، حيث توجَّه الحريري إلى بغداد لعرض مقاماته الأربعين، لأنّ مثقّفي بغداد لم يصدّقوا أنّه كتبها، ليظلّ أربعين يوماً في بيته ببغداد عاجزاً عن تأليف كلمة واحدة. وبعد عودته إلى البصرة جارّاً أذيال الخيبة، عاد إليه إلهامُه وكتب عشر مقامات أُخرى، ثمّ رجع إلى بغداد مرّة أُخرى وأثبت أبوّته لنصه، وبعدها بدأ الطلبة والعلماء بالتسابق لسماع مقاماته.

لكنّ العجيب، وفقاً للسكوتي، هو هذا الانتقال من العجز إلى الانتشار، بل "الإعجاز"، بتعبير بعض الكتابات التراثية التي أُعجب أصحابها، مثل الصفدي، بصنيع الحريري. مع ذلك، فإنّ "هذه النصوص غائبة عن مشهدنا الثقافي العربي اليوم ولا يكاد يعرفها إلّا المتخصّصون، فما الذي رآه قرّاءُ ما قبل الحداثة، وفشلنا نحن في رؤيته؟"، تتساءل صاحبة "ممالك الغرباء: القُرّاء، اللغة، والحيلة في مقامات الحريري"، وهو عنوان أطروحتها التي حازت عليها الدكتوراه، مؤخّراً، من "جامعة برلين الحرّة".

المقامة تعني المكوث في حين تحكُم على شخصياتها بالسفر والارتحال

لم يكن الحريري أوّل من كتب المقامات، إذ سبقه إليها بديع الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري، لكنّ المقامات لم تحتلّ المشهد الأدبي إلّا مع الحريري الذي أضاف إليها، وفقاً للمُحاضِرة، "البُنية السردية وتبئير اللغة والاحتفاء بالغموض، من خلال راويه الحارث بن همام وبطله أبي زيد السروجي". تُضيف: "لم يهتمّ البحث الأكاديمي المُعاصر بإطار الغُربة والغَرابة هذا، فماذا كانت المقامات لتكون لو لم يكن السروجي هارباً من أرضه التي احتلّها البيزنطيون؟ إذ لا حيلة إلّا في الغربة. وليست المقامات إلّا سخرية من الاستقرار أوّلاً وأخيراً، فالسروجي بغُربته وغرابته يكسر رتابة الاستقرار المرادف للفشل".

تُحاجج الباحثة المغربية من زاوية ما بعد حداثية واضحة تقترب فيها من مقولات مواطنها الناقد والروائي عبد الفتاح كيليطو، الذي يُعدّ أبرز المشتغلين المعاصرين على مقامات الحريري، وعليه، ترفض أن تُوصف المقامات بالتكرار أو أنها مكشوفة سلفاً أمام القارئ، وتعتبر مثل هذه النقودات متأثّرة بمنطق العقل الحداثوي الوظيفي الذي عبّر عنه بعض المستشرقين، قبل أن يتسلّل هذا الموقف "الرصين" إلى كتابات عربية مثل سلامة موسى وعلي الوردي في "أسطورة الأدب الرفيع"، حيث انتقد انحطاط المقامات في العصور المتأخّرة وقاربها بالتهريج. وفي السياق ذاته، تُشير الباحثة إلى مفارقة عاشها الحريري نفسه؛ إذ كتب أنّ "الأسجاع لا تُشبع من جاع"، في إشارة منه إلى أنّ الاشتغال بالأدب لا يأتي بالمال لصاحبه، لكنّ المقامات "أشأمت وأعرقت"، وإعجابُ النقّاد القدماء بها نقل الأديب البصري من موظّف بسيط إلى رجل غنيّ يملك 18 ألف نخلة!

وعلى وجاهة الأسباب التي ذكرتها أسماء السكوتي في محاضرتها، تبقى دعوتها لاستحضار مقامات الحريري دعوة بنيوية، لا تملك قابلية للانفتاح على أسباب أُخرى: اجتماعية وسياسية. ولإيضاح ما نريد قوله، نستعين بمثال قريب، ففي كتابه "بنات آوى والحروف المفقودة: عن الحيوانات الناطقة في لحظات الخطر" ("الكرمة"، 2023)، يستعيد الكاتب المصري هيثم الورداني ابنَ المقفّع من زاوية "لحظة الخطر السياسية" التي عاشها في القرن الثاني الهجري، لحظةٌ حتّمت على "العجماوات" (الحيوانات) أن تنطق في كتابه "كليلة ودمنة" الذي وضعه/ ترجمه عند منعطف تاريخي هدّدت فيه السلطة حياتَه قبل أن تبطش به بالفعل. التقاطةٌ يسترجعها الورداني في زمن ما بعد الثورات العربية وفي ذروة انتشار جائحة كورونا، ليجعل ابن المقفّع حيّاً بيننا من لحم ودم. ربّما هذه الإضافة هي ما كانت تنقص الحريريّ كما قدّمته لنا السكوتي، وإن تفاعلت بإيجابية مع هذه الفكرة التي طُرحِت في النقاش الذي تلا المُحاضَرة.

المساهمون