أسرار المدينة المقدّسة في "ترانيم الغواية"

12 ابريل 2015
(منشورات ضفاف، بيروت، 2014)
+ الخط -
نحن الآن هنا، في القدس القديمة، في بيت "ميلادة أبو نجمة"، وهي تعتبر عمّة أجيال العائلة، الكبار منهم والصغار. بنت سالم أبو نجمة الذي كان مواطنا وملاّكا في التشيلي، التي هاجر إليها ومات فيها كالكثير من الفلسطينيين الذين ابتلعتهم المنافي، ونحن برفقة المخرجة السينمائية راوية بنت عيسى التي تزور القدس لإنتاج فيلم جديد، وستعيش مع بطلة "الفيلم/ الرواية" العجوز "ميلادة" في الحوش.. وتستمع منها إلى تاريخ العائلة، وتاريخ القدس، وتاريخ فلسطين والمنطقة كلها، منذ أواخر أيام الدولة العثمانية، ثم الانتداب البريطاني، وصولا إلى قيام الدولة العبرية.

المخرجة راوية، في رواية ليلى الأطرش "ترانيم الغواية"، وفي اعتقادي أنها تجسّد شخصية الكاتبة/ مؤلفة الرواية، وضعت تصورا لـ"فيلم"، هو نفسه الرواية كما سنكتشف خلال سير الحوادث من البداية إلى النهاية، فهو كما تخبرنا المؤلفة فيلم سوف "يوقظ بشر المدينة من عباءة التاريخ.. يناصر نوازعهم على قدسية الحجر؟ عن حب عاصف تحدّى الأعراف والكنيسة، وحكايا نساء الظل في قدس الأديان". هذا الحبّ الخارج على قوانين الكنيسة سيجمع ميلادة منذ لحظة زواجها بعوض، مع الراهب متري الحداد، في علاقة تجعل منها الكاتبة ما يقارب الأسطورة.

تشتغل الروائية هنا في "الترانيم"، بمهارة وخبرة، في زمان ومكان فسيحين، تأخذنا من القدس القديمة إلى مشارق الأرض ومغاربها، من النبي عيسى إلى محمد وعمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي، حتى المفتي الحاج أمين الحسيني ومَن بعده. من حكم العثمانيين الأتراك، مرورا بالانتداب البريطاني على فلسطين، إلى قيام الدولة الصهيونية وآثارها في المنطقة العربية. تقدم لنا حكايات العجوز ميلادة، وتفتح ألبوم الصور الخاص بشقيقها إبراهيم، لعقود من السنوات، وتعطينا مذكرات الخوري متري الحدّاد، لنتعرف من خلال هذا كله على تاريخ فلسطين والمنطقة، على العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين، حيث صراع القوى المحلية والدولية، في القدس التي "تخلع ثوبا وترتدي آخر، فتشابكت في أيامها خطوط السياسة والدين والمصالح واختلطت.. فرشاة سوريالية لوّنت وجهها ببشر وأقوام فاض عنهم سورها العتيق.. وفي توالي الحقب، وتغير الحكام وتتابع الأحداث والأهوال، طغت فقاعات العام على الخاص كله، وطمرت قصص الناس وبعثرتها".

هي القدس وفلسطين، في حقبة زمنية طويلة، محتشدة بالحوادث الكبرى، وتختصر تاريخا طويلا ومتشابك الحوادث والعلاقات، في عمل يشتبك فيه التاريخيّ/ الواقعيّ بالمتخيَّل، اشتباكا لا يسمح بالفصل بين الوثائقي والروائيّ، ولا يترك للقارئ التأكد من هذه المسافة بين عناصر العمل، لكننا أمام الرواية التاريخية، أو الرواية التي تستخدم التاريخ، كما صنّفها الفيلسوف والناقد جورج لوكاتش (1885- 1971)، في كتابه "الرواية التاريخية"، كما تستخدم الوثيقة والمادة التاريخيّة، من خلال مجموعة مصادر مكتوبة، وكذلك باستخدام شخصية المؤرخ المرافق للمخرجة في جولاتها، والاستشهاد بروايته للكثير من الحوادث التاريخية.

في بيت العمّة ميلادة، يتشكّل العالم الروائي، من خلال الكثير من القصص والحكايات، الرئيسة والفرعية التي نسمعها من العمّة أو من الأصوات التي تتحدث في الرسائل واليوميات، حيث فتحت العمة مكتبة شقيقها إبراهيم للمخرجة راوية، وراحت تقترح لها تصوّرات لما ينبغي أن يكون عليه الفيلم، الأمر الذي جعل من الرواية نصّا مشتركا بين العجوز والمخرجة والمؤرّخين والمؤلفة البارعة في الجمع بين هذه الحكايات، لبناء عالم خاص بها، عالم روائي لم يُكتب من قبل.

في هذه الرواية، نلمَس ونعيش تاريخ القدس حيّا، لكنّها القدس غير المقدّسة، بل هي التي تجمع المتناقضات. فهنا "تهطل روايات التاريخ في مدينة الملك العظيم أورشليم.. كل حجر يحكي قصة تناقلتها الكتب"، كما نقرأ في هذا الفصل الذي يحمل اسم الملك العظيم. وللقدس وجوه لا تتشابه، فهنا "الباب الذهبي للمسجد الأقصى"، وهنا القدس التي "لم تعرف احتفالا، في أربعة قرون من حكم العثمانيين"، القدس التي "ابتُليَتْ البلاد بسنوات عجاف.. قحط وجراد لم يُبقِ ما يسد رمق الناس".

القدس التي تكتب عنها، ولها، ليلى الأطرش، هي قدس تختلف عن كل ما عرفنا، خصوصا لجهة العالم المسيحيّ الذي تصنعه، من الوثائق والتاريخ حينا، ومن رؤيتها هي لهذا العالم، حينا آخر. وهذا يذكرنا بصنيع إمبرتو إيكو في روايته "اسم الوردة"، وانتقاداته العنيفة للكنيسة وعوالمها الغامضة والسرّيّة. عوالم غريبة لا نعرف من أين جاءت بها الكاتبة، لكنها تستند إلى وثائق وكتابات تاريخية، بقدر ما تتكئ على رؤيتها الخاصة في كل ما يتعلق بتاريخ المدينة. فهي تنبش سيرة المدينة لتروي أو لتكتب جماليّات البيت والمعمار، حيث "مدن السماء تشع بنور أنبيائها، وتمور بالغواية والرغبات الدفينة"، أو نرى "مدينة الملك العظيم، مدينة منذورة لله.. ظاهرها قدسي، وباطنها إنسي"، وفيها "تستر دور البلدة القديمة ذاتها عن الغريب. أبواب مغلقة في جدران عالية تحدّ ضيق الدروب، تتعربش إلى الحارات.. أو تهبط إليها بدرجات متوالية. هي القدس.. مدينة الأديان والأدراج والأقواس".

(كاتب وشاعر أردني)
دلالات
المساهمون