موازنة ترامب الفيدرالية: عسكرة السياسة الخارجية

06 ابريل 2017
تعهّد ترامب بزيادة عديد الجيش إلى 540 ألف جندي(Getty)
+ الخط -
لا شيء يختصر نظرة الرؤساء الأميركيين إلى الحكم والعالم أكثر من الموازنة الفيدرالية التي تعكس العقيدة الخارجية وما هي الموارد التي يتم توظيفها من أجل مصالح الولايات المتحدة. اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترامب لموازنة السنة المالية 2018 يعدّل الطريقة التي تستعرض فيها واشنطن قوتها دولياً عبر تعزيز الخلل في التوازن بين العسكرة والدبلوماسية. وعلى الرغم من أن فرص تمرير الموازنة بنسختها الحالية شبه معدومة، فهي تحمل في طياتها نظرة ترامب إلى العولمة ونظامها الدولي. بعد التشاور مع الإدارات الحكومية، أرسل البيت الأبيض النسخة الأولية من مسودة الموازنة إلى الكونغرس تحت عنوان "أميركا أولاً"، على أن تتبعها في شهر مايو/ أيار المقبل، النسخة الكاملة التي تتضمن التبريرات والسياسات وراء الأرقام المدرجة فيها. ومقابل زيادة الإنفاق التقديري الدفاعي 54 مليار دولار ليصل حجمه إلى 603 مليارات دولار، تم تخفيض الإنفاق غير الدفاعي بـ54 ملياراً أيضاً ليبلغ 462 ملياراً. وتُقلّص الموازنة بكل بساطة ميزانية معظم الإدارات الحكومية من أجل تمويل الجيش وإجراءات الأمن الداخلي والهجرة.

أولوية الاستعداد الحربي
مرجعية التحوّل في الاستراتيجية الدفاعية لواشنطن هي مذكرة 31 يناير/ كانون الثاني الماضي لوزير الدفاع جيمس ماتيس، التي وضعت عناوين أولويات البنتاغون وانعكاساتها على الموازنة في المدى القريب والمتوسط. ماتيس يعتقد أن الإدارة الأميركية السابقة ركّزت على التهديدات المستقبلية أكثر مما ركّزت على الجهوزية العسكرية الحالية، وبالتالي وضع خطة انتقالية من ثلاث مراحل لما اعتبره ضرورة تصحيح هذا الاتجاه في الموازنة الدفاعية. المرحلة الأولى تتطلب تقديم طلب تعديل موازنة السنة المالية 2017 لتلبية "النقص العاجل في الاستعداد للحرب" بهدف توسيع العمليات العسكرية ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وهذا الطلب تم تقديمه إلى مكتب الإدارة والموازنة في البيت الأبيض. أما المرحلة الثانية، فهي الموازنة الدفاعية المقترحة لعام 2018 والتي تسعى لتحقيق التوازن بين النواقص البرمجية الملحة ومواصلة تعزيز الجهوزية الحربية. هذا يعني شراء المزيد من الذخائر العسكرية وزيادة عدد الجنود الأميركيين إلى "الحد الأقصى المسؤول". بعد التركيز المرحلي على الجهوزية، ستبدأ المرحلة الثالثة العام المقبل عندما يُتوقع أن يُصدر البنتاغون الاستراتيجية الدفاعية القومية التي ستشمل رؤية الموازنة للسنوات 2019-2023.

على مستوى السياسات الفعلية، التركيز في الموازنة الدفاعية لعام 2018 هو على استعادة قدرات واشنطن النووية والتركيز على ضمان الاستعداد العسكري، وزيادة عدد الضربات الجوية ونشر قوات خاصة إضافية في كل من سورية والعراق، بالإضافة إلى توسيع مماثل للعمليات في اليمن والصومال. كما يشمل أيضاً توفير موارد مالية لتعزيز الانتشار الأميركي في بعض المجاري المائية الدولية، مثل مضيق هرمز وبحر الصين الجنوبي. مذكرة ماتيس تركز على تلبية الاحتياجات الملحّة ولا ترسم سياسات طويلة الأمد لـ"إعادة بناء الجيش الأميركي". أما ترامب فيعتزم زيادة حجم الجيش الأميركي بطريقة تتناقض مع جهود تقليص الدين العام الفيدرالي ومن دون تبرير سياسي في ظل اتجاه لتقليص التورط العسكري الأميركي المباشر في مناطق النزاع. وخلال الحملة الانتخابية، قال ترامب إنه يريد زيادة عدد أفراد الجيش الأميركي من 475 ألفاً إلى 540 ألف جندي، ما يعني العودة إلى مستويات زمن الحرب خلال ولاية الرئيس الأسبق جورج بوش الابن.
الأرقام المقترحة من البيت الأبيض حول الموازنة الدفاعية هي 603 مليارات من الإنفاق التقديري زائد 77 ملياراً مخصصة لعمليات الطوارئ في الخارج، ما يعني أن الموازنة تضع على الأقل 680 ملياراً بتصرف البنتاغون. هذه الزيادة على الموازنة الدفاعية تلغي مفاعيل إجراءات التقشف التي وضعها الرئيس السابق باراك أوباما عام 2011 (قانون مراقبة الموازنة) والذي فرض إلغاء تلقائياً مزدوجاً على الإنفاق الدفاعي وغير الدفاعي في حال تم تجاوز سقف 549 ملياراً لكل منهما في عام 2018، لكن بحسب القانون، لا يمكن لهذا الإلغاء التلقائي أن يحصل من دون قرار يصدر عن البيت الأبيض. تقول المسودة المقترحة إن موازنة ترامب "تنهي الاستنزاف التعسفي لقوتنا وأمننا، وتبدأ إعادة بناء القوات المسلحة الأميركية". كما تتباهى بأن زيادة الـ52 ملياراً وحدها "تتجاوز الموازنة الدفاعية بأكملها لمعظم البلدان".


في المقابل، تطلب الموازنة من الكونغرس مبلغ 25.6 ملياراً لتمويل وزارة الخارجية ووكالة التنمية الدولية، ما يعني تخفيض 10.1 مليارات أو 28 في المائة مقارنة مع عام 2017، بالإضافة إلى مبلغ 12 ملياراً لتمويل تكاليف عمليات الطوارئ في الخارج، لا سيما في سورية والعراق وأفغانستان. من بين أولويات الشؤون الخارجية، تتحدث الموازنة عن حماية البعثات الدبلوماسية الأميركية حول العالم (2.2 مليار)، ومواصلة دعم إسرائيل (3.1 مليارات)، ووقف تمويل برامج الأمم المتحدة المعنية بالتغير المناخي وتحويل المساعدات العسكرية من منح إلى قروض، واقتصار المساعدات الاقتصادية والتنموية على البلدان ذات الأهمية الاستراتيجية لواشنطن، وتقليص المساهمات الأميركية في البنوك الدولية المتعددة الأطراف، مثل البنك الدولي، بحوالي 650 مليوناً في السنوات الثلاث المقبلة. وعلى عكس ما يعتقده الأميركيون بأن جزءاً كبيراً من أموالهم يذهب إلى المساعدات الخارجية، كما ذكر استطلاع لمركز "بيو"، فإن موازنة المساعدات الخارجية بلغت حوالي 22.7 ملياراً فقط العام الماضي، أي أقل من 1 في المائة من مجمل الموازنة الفيدرالية.
أما الأولويات العامة في الموازنة، فهي تعكس طروحات ترامب الانتخابية، أي تعطي أولوية لتجديد البنى التحتية الأميركية وإلغاء الضوابط الفيدرالية على الاقتصاد وأسواق العمل و"إعادة تحديد الدور المناسب للحكومة الفيدرالية". كما تلغي المسودة موازنة وكالات حكومية مستقلة، مثل مركز وودرو ويلسون الدولي ومعهد السلام الأميركي كما الصندوق القومي للفنون والعلوم الإنسانية. كل الوزارات طاولها التخفيض بنسب متفاوتة باستثناء وزارات الدفاع (زيادة 10 في المائة)، والأمن الداخلي (زيادة 7 في المائة)، وشؤون المحاربين القدامى (زيادة 6 في المائة). تلحظ الموازنة مبلغ 3.76 مليارات دولار لبدء بناء الجدار على طول الحدود مع المكسيك، لكن هناك عوائق تشريعية أمام توفير هذا التمويل الفيدرالي في المدى المنظور. كما لا تتضمن المسودة أي أفكار ضريبية جديدة لتوفير الموارد، بل تكتفي بإعادة توزيع الموارد الفيدرالية بطريقة تتناسب مع أولويات الإدارة الجديدة. لكن استطلاعاً نشرته جامعة "كوينيبياك" في 24 مارس/ آذار الماضي، عبّر عن رفض الأميركيين بنسبة كبيرة (تصل إلى 84 في المائة) محاولة ترامب تقليص النفقات الاجتماعية والتربوية والثقافية لصالح تعزيز الميزانية الدفاعية.

انقسام وخلافات
على الأرجح لن تمر مسودة الموازنة بنسختها الحالية في الكونغرس، وبالتالي قد يستمر الكونغرس في صرف مخصصات الوزارات عبر ما يُسمى "القرارات المستمرة"، كما حصل خلال إدارة أوباما، لاستحالة الاتفاق على موازنة فيدرالية عامة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. وهناك الآن انقسام داخل الحزب الجمهوري نفسه بين صقور الموازنة الدفاعية، مثل السيناتور جون ماكين، الذين يسعون لموازنة دفاعية تصل إلى 640 مليار دولار، وصقور تقليص الدين العام الفيدرالي الذين يسعون لتخفيض الموازنة الدفاعية.

وستكون الأدوار معاكسة هذا العام في أروقة الكونغرس في ما يتعلق بموازنة الشؤون الخارجية. وبعدما كانت العادة أن يسعى البيت الأبيض جهده لإقناع الكونغرس بعدم تقليص نفقات وزارة الخارجية، هذه المرة فإن قيادات الكونغرس من الحزبين متضامنة مع وزارة الخارجية. تقليص ميزانية الوزارة بحدود 10 مليارات دولار يجمّد الكثير من أنشطتها الخارجية، أما زيادة مماثلة على موازنة البنتاغون فلا تحدث فارقاً كبيراً. ما يعني أن وزارة الخارجية قد تضطر لصرف بعض الموظفين وإلغاء بعض البرامج والمناصب للتكيّف مع الموازنة الجديدة في حال تم إقرارها. وقد بدأت إدارة ترامب فعلياً النظر بإمكانية إلغاء مناصب أوجدتها إدارة أوباما، لا سيما حوالي 50 منصبَ مبعوث خاص لقضايا مثل سورية وليبيا والمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية ومتابعة تنفيذ الاتفاق النووي الإيراني.
مدير مكتب الإدارة والموازنة في البيت الأبيض مايك مولفاني، وصف المسودة بأنها "موازنة القوة الصلبة"، في تلميح إلى "القوة الناعمة" التي كانت عنوان إدارة أوباما. لكن لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن الموازنة الدفاعية الأميركية لعام 2012، والتي بلغ حجمها 682 ملياراً، تتجاوز مجموع الموازنات الدفاعية للصين وروسيا وبريطانيا واليابان وفرنسا والسعودية والهند وألمانيا وإيطاليا والبرازيل (652 ملياراً).
في ما يتعلق بالشرق الأوسط بالتحديد، فإن برامج المساعدات في وزارة الخارجية لعام 2016 بلغت حوالي 140 مليوناً فقط، فيما حوالي 7.14 مليارات (13 في المائة من ميزانية الشؤون الخارجية) كانت مخصصة للعمليات ضد التنظيمات الإرهابية في سورية والعراق واليمن وليبيا. موازنة ترامب بشكلها الحالي ستقلص برامج المساعدات غير العسكرية وتزيل الشروط المسبقة على تقديم المساعدات العسكرية إلى الحلفاء، ما قد يعيد السياسة الأميركية إلى ما قبل "الربيع العربي" حين كان هناك تساهل مع أشكال الاستبداد العربي. إذا مرت الموازنة بنسختها الحالية ستكرس تراجع دور الولايات المتحدة السياسي في المنطقة، لأنه بكل بساطة هناك كلفة مالية لاستدامة هذا النفوذ. هذه المسألة بالتحديد ستكون في صلب النقاشات التشريعية في "الكابيتول هيل" خلال الأسابيع المقبلة.