أنهى اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر زيارتين لأهم العواصم الأوروبية، باريس وبرلين، خلال اليومين الماضيين، حاملاً في حقيبته قضايا عدةً تنصبّ جميعها حول ملف الوجود التركي في ليبيا، في محاولة لاستثمار الموقف الأوروبي الرافض للاتفاقات التي وقّعتها أنقرة مع حكومة الوفاق من جهة، وفي محاولة لتعويض الدعم الروسي الذي بدأ بالتراجع من جهة ثانية، كما يقول مصدر برلماني رفيع مقرَّب من حفتر.
وعلى عكس ما أعلنته القيادة العامة لقوات حفتر من أن الزيارتين جاءتا تلبيةً لدعوة تلقاها حفتر لبحث مستجدات الأوضاع في ليبيا، إلا أن البرلماني الذي تحدث لـ"العربي الجديد" كشف النقاب عن أن محتويات حقيبة حفتر "لا تبحث عن حلول بقدر ما تبحث عن دعم سياسي".
وتبدو ألمانيا اليوم البديل الدولي أمام حفتر، لكونها هي من استضافت قمة برلين في 19 من يناير/كانون الثاني الماضي التي أفرزت مسارات الحل الأممية الثلاثة، فيما تبدو فرنسا الشريك الدولي الأبرز الذي يمكن أن يعوضه تراخي، وربما انسحاب روسيا من صفوف داعميه خصوصاً، لذا وعد قادتها باستعداده للتوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار الذي رفض في السابق التوقيع عليه في موسكو منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، بحسب المصدر ذاته.
وحملت الزيارة شحناً مباشراً ضد تركيا، بحسب البرلماني المقرب من حفتر، الذي قال إن "اللواء المتقاعد سلّم باريس ملفات" زعم أنها "تؤكد إرسال تركيا آلاف المرتزقة السوريين. لا ليشاركوا في القتال إلى جانب قوات الحكومة فقط، بل ليتحولوا إلى بؤرة ازعاج تركية جديدة للأوروبيين من خلال تحويلهم إلى مهاجرين عبر قوارب الموت التي تنطلق من السواحل الليبية".
وأكد المصدر أن حفتر قدم وعداً آخر في برلين باستعداده لتسريح المقاتلين الأجانب من صفوف قواته، وتحديداً "الفاغنر" كعربون لتأكيد رغبته في وقف إطلاق النار.
تحركات تطرح أسئلة عمّا يخبئه حفتر من الدبلوماسية مع الأوروبيين وعن أهدافه ومكتسباته من ذلك. وعن هذه التساؤلات، أكد الأكاديمي الليبي خليفة الحداد أن "فرنسا كانت تعد لهذه اللحظة منذ فترة طويلة"، مبرراً أنّها "استشعرت فشل حليفها السياسي غسان سلامة في مهمته الأممية، وأن مسارات الحل الثلاثة لن تفضي إلى شيء، ولذا كانت قد وجهت الدعوة إلى حفتر منذ 12 فبراير/شباط".
وأوضح الحداد رأيه لـ"العربي الجديد"، قائلاً إن "سلامة أعلن وفاة المسارات الثلاثة، بينما عجزت الأمم المتحدة حتى الساعة عن تعيين بديل له للاستمرار بالمسارات، وبالتالي تقدم أوروبا نفسها من خلال برلين وباريس بديلاً لملء الفراغ الأممي".
ولفت إلى أن "الخطوة الوشيكة التي تعمل عليها الحكومة من خلال شنّ حملة عسكرية بدعم تركي واضح ستغير بكل تأكيد كل الموازين، لا يمكن عرقلتها إلا بورقة ضغط مهمة وبعيدة عن سلطة الحكومة، هي ورقة النفط"، مرجحاً أن "تكون المبادرة الفرنسية تتمثل بإقناع حفتر بإعادة ضخ النفط مقابل حصوله على مراكز قيادية كبيرة في المؤسسات الاقتصادية، كالبنك المركزي مثلاً".
ورأى الحداد أيضاً أن "التفات باريس عن رئيس الحكومة فائز السراج وتقاربها مع وزير داخلية حكومة الوفاق فتحي باشاغا، يعني معرفتها بأن مصراتة التي ينحدر منها الوزير تمثل الثقل السياسي والعسكري الأكثر تأثيراً في مراكز القرار في حكومة الوفاق وطرابلس".
من جهة ثانية، رجّح الحداد أن تكون دعوة فرنسا لباشاغا محاولة لشق صف قادة طرابلس، خصوصاً في ظل غضب مجموعات مسلحة هناك بعد وصفها بالمليشيات من قبل باشاغا.
كذلك يستشهد عضو المجلس الأعلى للدولة، إبراهيم صهد، بالتصريحات التي دعا فيها باشاغا إلى "عدم تلبية دعوة فرنسا لأنها تريد أن تنقض على الاتفاق الليبي التركي نظراً لموقفها من تركيا، لذلك لا يمكن بأي حال التعامل مع فرنسا على أنها صديقة وحليف"، بحسب تصريحات صهد أمس الثلاثاء.
ولفت الحداد إلى أن نجاح قوات الحكومة في اكتساح جنوب طرابلس وإبعاد حفتر عنه لن يمكّنها من فك الحصار على مصادر تمويلها وإعادة ورقة النفط، وبالتالي لا مناص من التشاور حول حلول محاورها النفط الذي لا تزال كل منشآته في يد حفتر.
وأكد الحداد أيضاً أن شكل الحل السياسي بعد إقرار حلفاء حفتر وحفتر نفسه بفشل الحل العسكري سيكون بعيداً عمّا كانت الأمم المتحدة تطمح إليه من خلال الحلول الثلاثة، مرجحاً أن يكون أحد اثنين: إما مشاركة حفتر في قيادة مراكز حيوية اقتصادية، وعلى رأسها البنك المركزي قبل أن يعاد ضخ النفط، أو إعادة فتح المنشآت النفطية على أساس "التقاسم العادل للثروة" بأي صيغة، ولو كانت فيدرالية.
لكنه لفت إلى أن الزيارتين لم يصدر عنهما أي بيان رئاسي رسمي في برلين ولا في باريس، ما يعني أن الخطى الأوروبية باتجاه ليبيا لا تزال تنتظر موقفاً روسياً أكثر وضوحاً.
وقال: "يجب علينا أن نقرأ أن قرار قفل المنشآت النفطية في ليبيا كان بهدف حصار حكومة الوفاق حليف الحكومة التركية التي وقعت معها في السابق اتفاقاً لترسيم الحدود المائية في البحر المتوسط الغني بمصادر الطاقة".
وبحسب المصدر المقرب من حفتر، تبدو الفرصة سانحة لفرنسا وتحقق لها أهدافاً عدّة، أولها تخفيض الفرص أمام روسيا التي تسعى إلى التوغل في ليبيا، وبالتالي تفردها بقرار التأثير بحفتر بعيداً عن الوجود الروسي الذي يبدو أنه يميل إلى التقارب مع تركيا في غضون التسويات الحالية بشأن إدلب السورية.
وتعزيزاً لوجهة النظر هذه، رأى الباحث الليبي في العلاقات الدولية، مصطفى البرق، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن فرنسا تمتلك في حال تراجع الدور الروسي، أهم الأوراق الضاغطة في البلاد، وهو ملف النفط، حيث تدير "توتال" الفرنسية غالبية حقول النفط وتعتبر الأقدم من بين كل الشركات العالمية وجوداً في ليبيا.
وأوضح البرق أن "باريس من خلال ورقة النفط، الذي يحاصر حكومة الوفاق حالياً ويضعف من مواردها المالية بشكل كبير، يمكنها توجيه حكومة الوفاق نحو حل سياسي يضمن مكاناً بارزاً لحليفها حفتر"، مستشهداً بما سربته صحيفة "لوموند" عن أن مبادرة فرنسية منتظرة ستتركز على إعادة فتح المنشآت النفطية كأساس للحل في ليبيا ومشروطة بإعادة إصلاح مؤسسة النفط والبنك المركزي في طرابلس.
في الشأن، اعتبر البرق أن زيارة حفتر لباريس قبل برلين خطوة ضرورية، ففيها أعلن استعداده لوقف إطلاق النار ورمى الكرة في ملعب الحكومة قبل أن يذهب إلى برلين لبحث إمكانية إحياء المسارات الثلاثة واستمرارها.
ولفت إلى أن حفتر يحاول فتح المجال للأوروبيين لشغل الفراغ الذي خلفته استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة، وخصوصاً في ظل الموقف الأوروبي المنزعج من الحضور التركي والروسي.
وعلى الرغم من استمرار المواجهات المسلّحة بشكل غير مباشر في محاور جنوب طرابلس، إلا أن البرق يؤكد أن مخاوف قيادة حفتر من الاستعدادات التي تجريها قوات الحكومة لهجوم وشيك على مواقعه في تزايد، وهو ما دفعه إلى البحث عن حلول تحفظ له أماكنه القريبة من العاصمة.