لا وقت على الطريق الممتدة من بيروت إلى قريتك في قضاء صور جنوبي لبنان، للتفكير ما إذا كان حرق الإطارات المطاطية تعبيراً عن الاحتجاج موروثاً نضالياً. تلك القرية، التي لا ترتفع كثيراً عن سطح البحر، لا تزال شمسها حارقة عند الصباح. بالإمكان تسميتها "صوريانا"، اختزالاً لقرى القضاء، واستعارةً من مدينة صور، التي شكّلت انتفاضتها ضد الفساد، والنظام الحاكم، بكل رموزه، حالة خاصة ضمن الانتفاضة التي يشهدها لبنان. هنا، في تلك القرى المتلاحقة منذ مفترق بلدة العباسية عند مدخل المدينة، أو مفترق برج الشمالي، تحكم الثنائية الشيعية (حزب الله-حركة أمل) بقبضة من حديد، لكنها عجزت، أو امتنعت، تفادياً للغضب غير المسبوق، أن تحول دون حرق الإطارات عند مداخل القرى، والذي جرى كتعبيرٍ واضح عن اندماج مع الحراك المطلبي، ولكن من دون القدرة على الحشد الكثيف.
في الطريق الصباحية، يجادلك صحافي صديق ينوي الترجّل في صور، بأن مشكلة لبنان هي أن لا ديكتاتور واحداً فيه لإسقاطه. قد يصعب التصوّر، وأنت تقود سيارتك إلى قريتك بعد فترة غياب، أنك ستنظر إليها بعينين مختلفتين، بعيداً عن ديكتاتورية الطائفة وسطوتها. نساءٌ يتّشحن بالسواد يتوجّهن لـ"الصبحية". عاشوراء لا تزال تستكمل أيامها بعد أربعينيتها، وكذلك صورة كبيرة لرئيس حركة "أمل" منذ عقود، ومجلس النواب اللبناني منذ عام 1992، نبيه بري، لكن رائحة احتراق الإطارات عند مدخل "صوريانا" وعبوات المياه الفارغة، والكتابات على بعض الجدران، تشي بأن القرية، أو جزءاً من أبنائها، غاضبون.
كانت مؤشرات عديدة في القرية، قبل أشهرٍ من انتفاضة لبنان، تؤكد حالة البؤس التي وصلت إليها. في الدوار عند مدخلها، كان شبان عاطلون عن العمل يرابطون بشكل يومي. في النهار، يواصلون احتساء القهوة، عند كشكٍ صغير في زاوية الطريق، تخال أنها تعويض عن خمر ممنوعٍ في قرى وبلدات الجنوب. أما في المساء، وحتى ساعات الفجر الأولى، فكان صراخهم يحرم الأهالي من النوم. تفلّت هذه الظاهرة، وهذا النموذج للبطالة، تمخّضت فورته مرةً في اعتداء صباحي على عمال سوريين اعتادوا افتراش أحد أرصفة الدوار للتجمّع، ثم الانتقال إلى ورشات عملهم. لم تكن تلك الاعتداءات بالضرورة عنصرية، بل كبتٌ كامن لا يجد سبيلاً لتنفيسه بغير طريقة، تعبيراً عن سوء الحال.
لا تجد في القرية سوى الأصدقاء لسؤالهم عن رأيهم بانتفاضة لبنان، وإن كانوا يقصدون مدينتَي النبطية وصور للمشاركة في التظاهرات اليومية التي تقام هناك. فـ"الآخرون" قد يكونون من "جمهور حزب الله"، الذي لوّحت أمانته العامة بالنزول إلى الشارع، أو من مؤيدي أو المنتسبين لحركة "أمل" التي لاحق مسلحوها المتظاهرين في شوارع صور. يعاني هذان الجمهوران، أي جمهورا "حزب الله" و"أمل"، بالتأكيد من قلة ذات اليد، أسوة بغيرهما من اللبنانيين.
في البلدة مولدان للكهرباء، لتغطية حاجات سكانها، وتأتي الفاتورة الشهرية ضخمة بحسب الاستهلاك الضخم، والذي يعود إلى فترات التقنين الطويلة في الجنوب للكهرباء الوطنية. أما "مياه الدولة"، تماماً كـ"كهرباء الدولة"، وهو المصطلح الذي يطلق على خدمات حكومية لتفريقها عن الخدمات الخاصة، فقد تغيب عن الوصول إلى المنازل 15 يوماً، بعدما ظلّ الأمل كبيراً لفترة طويلة بمشروع "وادي جيلو" المائي. هذا المشروع، مثله مثل "أوتوستراد الجنوب"، قد يكون من أبرز "إنجازات" المنطقة بعد الحرب الأهلية، ونفذه "مجلس الجنوب"، إحدى البدع الإنمائية للدولة اللبنانية، وأحد مزاريب الهدر، والذي يرعاه بري، المسماة كتلته النيابية "التنمية والتحرير".
نال بري حصة وافية من شتائم المتظاهرين، وفي عرينه تحديداً. "بيئة المقاومة"، أي مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، لم تتبدل رؤيتها لمسار الأمور في أيام معدودة من التظاهرات. مقاومة إسرائيل خيار الجنوبيين، وهم يعرفون أنهم "يدبرون أمورهم" بانتظار "الحرب المقبلة". لكن الممسكين بمفتاح "المقاومة" في لبنان، يدرك المؤيدون لهم من أبناء الجنوب، والمعارضون كذلك، أنهم عاجزون عن صياغة مشروع وطني لـ"مقاومة اقتصادية"، فيما تقود كل المؤشرات في هذا البلد إلى اقتراب الانهيار الاقتصادي التام. لكن الثروة الهائلة التي راكمها رئيس مجلس النواب، وعائلته، وعدد من نواب في كتلته ووزراء منتمون للحركة أو مقربون منه، عدا عن مكتسباته خلال الحرب الأهلية، تمنع الحديث بشكل منطقي. باختصار، لـ"الرئيس بري" حصّةٌ من كل شيء، فهو منذ 30 عاماً جزء أساسي من "الترويكا" السياسية ونظام المحاصصة اللذين خرج بهما "السلم الأهلي".
اقــرأ أيضاً
من أهم مظاهر البؤس في القرية، قد تكون البطالة المقنعة. "أبناؤنا يهرولون لفتح المقاهي"، تقول مريم، شارحة كيف "يعود شباب القرية بعد انتهاء الدراسة الجامعية، إلى نقطة الصفر، فلا يجدون أمامهم سوى فرصة رصّ الحجارة لبناء محل صغير. بضع طاولات، وماكينة قهوة، وعدد من النارجيلات (الشيشة)، لجمع العاطلين عن العمل أو العاملين موسمياً (دهان، نجار، قطف زيتون...) فيه. بالمختصر، عاطل عن العمل يخدم عاطلاً آخر".
يميل معظم أبناء الجنوب اللبناني اليوم لاستكمال دراستهم. موسم الإقطاع ولّى، والفتيات توقّفن منذ وقت طويل عن القول "بطّلت (أوقفت) المدرسة"، في إشارة إلى رغبتهن بالزواج المبكر والتخلي عن طموح استكمال الدراسة. لكن من مظاهر البؤس، للمفارقة، أن "صوريانا" لوحدها تضمّ أكثر من 20 صيدلية في طريقها العام، بمساحة لا تكبر كثيراً عن شارع أو شارعين في العاصمة بيروت. كل من يملك قطعة أرض يبني لابنه أو ابنته مشروعاً حسب التخصص: عيادة، صيدلية، دكان سمانة. التوظيف في الجنوب، يمرّ بدوره غالباً عبر الثنائية الشيعية، التي تعلم جيداً من يصوّت لها في الانتخابات. هكذا، تأتي هذه المشاريع، في ظلّ معوقات مناطقية وطائفية التوظيف في لبنان، حلاً لأزمة البطالة، وقد لا تجلب المال الكثير، لحدة التنافس مقارنة بعدد السكان.
لا يشكو سكان القرية العازمون على المشاركة في التظاهرة، مما سيورثون لأبنائهم، وهو شعار يرتفع إلى جانب الشعارات المطلبية الأخرى التي تقود تظاهرات لبنان. "تعوّدنا إنو الجنوب هيك، ولادنا متلنا، تعودوا. بدنا ناكل، بدنا نشرب، بدهم تياب على العيد، بدهم يتعلموا، وكل يوم ينزلوا على صور أو على صيدا على الجامعة، بدهم مصروف، وبدنا طبابة ودوا... كل شي لازم يجي بتبويس الإيدين (تقبيل الأيدي)"، تشرح فاطمة، ابنة الـ39 عاماً، وهي تتحضر للنزول إلى صور.
وحدها أم حسن، تروي معاناة من نوع آخر. ولداها شاركا مع "حزب الله" في الحرب السورية. "ركعت أمامهما ليعودا ويكملا التعليم، لا أريد أن أخسرهما. كسر المحرمات أصبح ضرورة"، تقول باكية.
كسر المحرمات، وإيقاظ الكتلة النائمة، قد يكون من أبرز مظاهر الانتفاضة اللبنانية. سقوط "التابوهات"، في الجنوب، من خلال توجّه متظاهريه مباشرة إلى الزعماء الشيعة، يؤكد أبناء القرية، أنه لا يعني خروجاً عن "الثوابت الوطنية" المعروفة في قاموس الجنوبيين. الخطوط الحمراء، لم تعد تعني اليوم عدم التعرض لأمين عام أو رجل دين، أو لرئيس أو زعيم، أو لزوجته، أو أولاده المتنفذين. "الكل يعرف حجم السرقات وحجم الثروات، ما في شي مخفي"، يقول أحمد، الأب لخمسة أولاد، والذي غادر البكر منهم عائداً إلى فرنسا حيث حصل على شهادة الدكتوراه، بعدما درّس سنتين في الجامعة اللبنانية من دون أي مقابل مادي.
تعود بالسيارة إلى مدينة صور. تفكر في تجنّب زحمة سير مدخلها، الذي لم يتبدل مشهده الفوضوي وحالته المزرية منذ عقود. تماماً كساحة الشهداء ووسط بيروت، تشاهد نصف مدخل صور، كعشوائية، تتوسط مظاهر حداثة ومشاريع استثمارية، تراها من ضمن أدوات "تجميل" كذبة كبيرة أُرغم اللبنانيون على تقبّلها لعقود.
في ساحة العلم في صور، أعداد ليست بقليلة تشارك في التظاهرة، تحيط بها مصارف من كل الجنبات. المشاركون يوزعون وروداً على رجال الأمن الحاضرين منعاً لأي احتكاك أمني مع مسلحين. في الماضي، كان الشعور الشخصي أن لأبناء الجنوب، "عقدة الانعزال"، مع أنه شعور غالباً ما يراود طائفة تجاه أخرى في لبنان. قد لا يكون هذا الشعور صحيحاً، أو قد يكون نسبياً بين منطقة من الجنوب وأخرى. "الفقر يجمع"، يقول أحد المتظاهرين. على الطريق، تسمع وتقرأ على هاتفك الجوال عن حرق أعلام إسرائيلية وأميركية في النبطية. البوصلة تسير بشكل صحيح. أتذكر كلام صديق صحافي أجنبي يغطي لبنان منذ زمن: "بيئاته المتعددة ستنفجر من الداخل".
في الطريق الصباحية، يجادلك صحافي صديق ينوي الترجّل في صور، بأن مشكلة لبنان هي أن لا ديكتاتور واحداً فيه لإسقاطه. قد يصعب التصوّر، وأنت تقود سيارتك إلى قريتك بعد فترة غياب، أنك ستنظر إليها بعينين مختلفتين، بعيداً عن ديكتاتورية الطائفة وسطوتها. نساءٌ يتّشحن بالسواد يتوجّهن لـ"الصبحية". عاشوراء لا تزال تستكمل أيامها بعد أربعينيتها، وكذلك صورة كبيرة لرئيس حركة "أمل" منذ عقود، ومجلس النواب اللبناني منذ عام 1992، نبيه بري، لكن رائحة احتراق الإطارات عند مدخل "صوريانا" وعبوات المياه الفارغة، والكتابات على بعض الجدران، تشي بأن القرية، أو جزءاً من أبنائها، غاضبون.
لا تجد في القرية سوى الأصدقاء لسؤالهم عن رأيهم بانتفاضة لبنان، وإن كانوا يقصدون مدينتَي النبطية وصور للمشاركة في التظاهرات اليومية التي تقام هناك. فـ"الآخرون" قد يكونون من "جمهور حزب الله"، الذي لوّحت أمانته العامة بالنزول إلى الشارع، أو من مؤيدي أو المنتسبين لحركة "أمل" التي لاحق مسلحوها المتظاهرين في شوارع صور. يعاني هذان الجمهوران، أي جمهورا "حزب الله" و"أمل"، بالتأكيد من قلة ذات اليد، أسوة بغيرهما من اللبنانيين.
في البلدة مولدان للكهرباء، لتغطية حاجات سكانها، وتأتي الفاتورة الشهرية ضخمة بحسب الاستهلاك الضخم، والذي يعود إلى فترات التقنين الطويلة في الجنوب للكهرباء الوطنية. أما "مياه الدولة"، تماماً كـ"كهرباء الدولة"، وهو المصطلح الذي يطلق على خدمات حكومية لتفريقها عن الخدمات الخاصة، فقد تغيب عن الوصول إلى المنازل 15 يوماً، بعدما ظلّ الأمل كبيراً لفترة طويلة بمشروع "وادي جيلو" المائي. هذا المشروع، مثله مثل "أوتوستراد الجنوب"، قد يكون من أبرز "إنجازات" المنطقة بعد الحرب الأهلية، ونفذه "مجلس الجنوب"، إحدى البدع الإنمائية للدولة اللبنانية، وأحد مزاريب الهدر، والذي يرعاه بري، المسماة كتلته النيابية "التنمية والتحرير".
من أهم مظاهر البؤس في القرية، قد تكون البطالة المقنعة. "أبناؤنا يهرولون لفتح المقاهي"، تقول مريم، شارحة كيف "يعود شباب القرية بعد انتهاء الدراسة الجامعية، إلى نقطة الصفر، فلا يجدون أمامهم سوى فرصة رصّ الحجارة لبناء محل صغير. بضع طاولات، وماكينة قهوة، وعدد من النارجيلات (الشيشة)، لجمع العاطلين عن العمل أو العاملين موسمياً (دهان، نجار، قطف زيتون...) فيه. بالمختصر، عاطل عن العمل يخدم عاطلاً آخر".
يميل معظم أبناء الجنوب اللبناني اليوم لاستكمال دراستهم. موسم الإقطاع ولّى، والفتيات توقّفن منذ وقت طويل عن القول "بطّلت (أوقفت) المدرسة"، في إشارة إلى رغبتهن بالزواج المبكر والتخلي عن طموح استكمال الدراسة. لكن من مظاهر البؤس، للمفارقة، أن "صوريانا" لوحدها تضمّ أكثر من 20 صيدلية في طريقها العام، بمساحة لا تكبر كثيراً عن شارع أو شارعين في العاصمة بيروت. كل من يملك قطعة أرض يبني لابنه أو ابنته مشروعاً حسب التخصص: عيادة، صيدلية، دكان سمانة. التوظيف في الجنوب، يمرّ بدوره غالباً عبر الثنائية الشيعية، التي تعلم جيداً من يصوّت لها في الانتخابات. هكذا، تأتي هذه المشاريع، في ظلّ معوقات مناطقية وطائفية التوظيف في لبنان، حلاً لأزمة البطالة، وقد لا تجلب المال الكثير، لحدة التنافس مقارنة بعدد السكان.
لا يشكو سكان القرية العازمون على المشاركة في التظاهرة، مما سيورثون لأبنائهم، وهو شعار يرتفع إلى جانب الشعارات المطلبية الأخرى التي تقود تظاهرات لبنان. "تعوّدنا إنو الجنوب هيك، ولادنا متلنا، تعودوا. بدنا ناكل، بدنا نشرب، بدهم تياب على العيد، بدهم يتعلموا، وكل يوم ينزلوا على صور أو على صيدا على الجامعة، بدهم مصروف، وبدنا طبابة ودوا... كل شي لازم يجي بتبويس الإيدين (تقبيل الأيدي)"، تشرح فاطمة، ابنة الـ39 عاماً، وهي تتحضر للنزول إلى صور.
وحدها أم حسن، تروي معاناة من نوع آخر. ولداها شاركا مع "حزب الله" في الحرب السورية. "ركعت أمامهما ليعودا ويكملا التعليم، لا أريد أن أخسرهما. كسر المحرمات أصبح ضرورة"، تقول باكية.
تعود بالسيارة إلى مدينة صور. تفكر في تجنّب زحمة سير مدخلها، الذي لم يتبدل مشهده الفوضوي وحالته المزرية منذ عقود. تماماً كساحة الشهداء ووسط بيروت، تشاهد نصف مدخل صور، كعشوائية، تتوسط مظاهر حداثة ومشاريع استثمارية، تراها من ضمن أدوات "تجميل" كذبة كبيرة أُرغم اللبنانيون على تقبّلها لعقود.
في ساحة العلم في صور، أعداد ليست بقليلة تشارك في التظاهرة، تحيط بها مصارف من كل الجنبات. المشاركون يوزعون وروداً على رجال الأمن الحاضرين منعاً لأي احتكاك أمني مع مسلحين. في الماضي، كان الشعور الشخصي أن لأبناء الجنوب، "عقدة الانعزال"، مع أنه شعور غالباً ما يراود طائفة تجاه أخرى في لبنان. قد لا يكون هذا الشعور صحيحاً، أو قد يكون نسبياً بين منطقة من الجنوب وأخرى. "الفقر يجمع"، يقول أحد المتظاهرين. على الطريق، تسمع وتقرأ على هاتفك الجوال عن حرق أعلام إسرائيلية وأميركية في النبطية. البوصلة تسير بشكل صحيح. أتذكر كلام صديق صحافي أجنبي يغطي لبنان منذ زمن: "بيئاته المتعددة ستنفجر من الداخل".