عقدت محكمة مدينة كوبلنز الإقليمية العليا اليوم الخميس، للمرة الأولى في العالم، أولى جلسات محاكمة لمسؤولَين أمنيَّين منشقين عن النظام السوري، لارتكابهما جرائم ضد الانسانية، بعد إلقاء القبض عليهما في فبراير/ شباط 2019، وهما يواجهان تهماً بالتعذيب والقتل والاغتصاب والاعتداءات الجنسية الخطيرة ضد المعتقلين في سجون النظام السوري.
وتعتمد السلطات القضائية الألمانية في ذلك على القانون الجنائي الدولي الذي انضمت إليه برلين عام 2002، والذي يسمح بأن يعاقب القضاء الألماني على الجرائم ضد الإنسانية حتى ولو ارتُكبَت في بلد آخر، والجناة والضحايا ليسوا من الألمان. ومن شأن هذه الخطوة أن تشكل رسالة سياسية في مسار الآمال المعقودة على إمكانية محاكمة أركان النظام السوري المسؤولين قانوناً عن جرائمهم، وأنهم لم يعودوا بمنأى عن المحاسبة.
ويواجه الضابط أنور رسلان، والمسؤول الأمني إياد الغريب، التهم التي سيقت بحقهما بعد التعرف إليهما من قبل ضحايا المشتبه فيهما بعد هروبهما إلى ألمانيا، وذلك بحكم أن الأول كان يرأس وحدة التحقيق في القسم 251 المسؤولة عن أمن العاصمة دمشق والمنطقة المحيطة بها، وحيث كان للقسم سجن خاص به، فيما احتجز الآخر المتظاهرين وشارك في عمليات التعذيب.
وعن جلسة اليوم، قال مدير المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية أنور البني، لـ"العربي الجديد"، إن "أجواء المحاكمة كانت جيدة، وعرضت المحكمة المواد التي استندت إليها لبدء المحاكمة، ولم يعترض في الشكل محامو المتهمين على صلاحية المحكمة الناظرة في الدعوى".
ولفت إلى أن محامي رسلان أفاد هيئة المحكمة بأن النقاط التي فندها البيان الاتهامي سيرد عليه خطياً يوم الاثنين المقبل، فيما اعتبر محامي الغريب أن موكله استُمع إليه أولاً كشاهد، لا كمتهم، معترضاً على الزج به في هذا الملف وكيف "لُفقت التهم بحقه"، علماً أن هناك جلسة ثانية ستعقد غداً الجمعة، وسيُستمَع فيها إلى محققي الشرطة الذين استجوبوهما بعد إلقاء القبض عليهما، وفق ما أفاد البني.
وأضاف أن الجلسات ستتابع الأسبوع المقبل على مدى ثلاثة أيام، وخلال شهر مايو/ أيار هناك 5 جلسات، متوقعاً أن يُستمَع إلى الشهود خلال الجلسات اللاحقة، قبل أن يثني على الإرادة الواضحة لدى السلطات القضائية الألمانية للمضي في المحاكمات، مستبعداً أي تمييع للقضية أو أي نية سياسية للتعطيل، آملاً أن يشق مسار العدالة طريقه ويعاقب المرتكبين.
وعما إذا كان من بين الشهود من تعرّض لتهديدات معينة، بحكم ما يقال إن هناك مؤيدين للنظام موجودين في ألمانيا، أوضح البني أنه "لغاية الآن لم نسمع عن مثل هذه الضغوط، لكن في حال تعرُّض أحدهم لمضايقات، فإن أكثريتهم لن يفصحوا عن أسمائهم الحقيقية، ومن الممكن حمايتهم من قبل الشرطة".
تجدر الإشارة إلى أن الادعاء العام الألماني، وفق ما ذكرت صحيفة "تاغس شبيغل"، تمكن من التثبت أنه ما بين إبريل/ نيسان 2011 وسبتمبر/ أيلول 2012 كان رسلان مسؤولاً عن التعذيب الوحشي لما لا يقلّ عن 4 آلاف سجين وقتل أكثر من 58 شخصاً آخرين.
واستند الادعاء في ذلك إلى الشهادات المدعمة لأكثر من عشرين شخصاً من الشهود ومدعين مشاركين في المحاكمة، فضلاً عن عدد من الوثائق التي تبرز أساليب التعذيب والانتهاكات بحق المعتقلين السوريين والمدرجة إفادتهم في لائحة الاتهام، بينها الركل والضرب المبرح بالقبضات والسوط والكابلات الغليظة، كما الصعق الكهربائي، وربطهم بالسقوف دون أن تلامس أطرافهم الأرض، إلى التهديدات النفسية بإساءة معاملة أقاربهم.
وتبرز الصور التي هرّبها المصور العسكري السوري الملقب باسم "قيصر"، جرائم النظام بجثث 11 ألف شخص تعرضوا للتعذيب حتى الموت على يد المخابرات، ووصفت بأنها من أكثر الشهادات المخيفة للجرائم التي ارتكبها النظام، علماً أن النظام متهم بإخفاء ما يزيد على 128 ألف سوري دون أن يظهر لهم أثر، فضلاً عن أعمال قتل وتعذيب موثقة بحق أكثر من 14 ألف شخص، وفق تقارير صحفية ألمانية.
في السياق، قال فولفغانغ كاليك، الأمين العام للمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان لـ"تاغس شبيغل"، إن المحاكمة في كوبلنز "يمكن أن تؤدي إلى مزيد من الإجراءات في ألمانيا ودول أخرى، وعليه يجب بالفعل جمع الأدلة ضد نظام الأسد، ولو لم تكن هناك محكمة دولية بسبب الجرائم في سورية".
في المقابل، هناك بعض التعليقات التي رأت أنه على الرغم من أن هؤلاء المنشقين/ اللاجئين يحاكمون نيابة عن النظام، إلا أن الرسالة قد تخدم الأخير لأنه قد يكون من المفيد للنظام أن تقدم السلطات القضائية في ألمانيا على محاكمتهم، من منطلق أنهم "خونة" له، ورسالة للآخرين لعدم محاولة تبديل ولاءاتهم.
مع العلم أن رسلان تحدث في إبريل 2013 عندما التقته "دير شبيغل" في عمان عن تفاصيل عمل أجهزة المخابرات التابعة للنظام وكيفية تلفيق التهم للأفراد، وكيف أنه منذ بداية عام 2012 لم يعد الأمر يتعلق بالتحقيقات ضد المعارضين الفعليين للنظام، بل بالقتل الجماعي للمدنيين الذين لا علاقة لهم بالمعارضة المسلحة أو الجماعات الإرهابية، حيث كان يجب أن يجلب الناس إلى اعترافات لا يوجد ما يمكن أن يعترفوا به.
وبينت الصحيفة أن رسلان شعر عام 2015 خلال وجوده في برلين بأنه مهدد، ليس من ضحاياه السابقين، بل من أتباع الأسد الذين كانوا يراقبونه، وفق ما قال للشرطة حينها، شارحاً عن عمله السابق ضمن أجهزة المخابرات وكيفية هروبه التي يعتبرها النظام في سورية أنها خيانة تستحق الموت.
تجدر الإشارة إلى أن رسلان خلال الفترة السابقة أدى على مدى عامين دوراً بارزاً داخل صفوف المعارضة في المنفى، وبينت "شبيغل أون لاين" أنه سافر إلى إسطنبول، وشارك عام 2014 في محادثات جنيف التي جرت برعاية الأمم المتحدة، وكان قد وصل مع عائلته إلى ألمانيا عام 2014، بعد أن منح تأشيرة من السفارة في الأردن، وذلك بعد أن تأكدت الخارجية الألمانية أنه كان له دور نشط وظاهر داخل المعارضة السورية.