هل يسلّم أوباما الملف السوري للبنتاغون بعد فشل الدبلوماسية؟

05 أكتوبر 2016
الروس استغلوا الخلافات داخل إدارة أوباما (دينيس براك بول/Getty)
+ الخط -
تغلب السخرية على تعليقات السوريين المعارضين إزاء تلقيهم النبأ العاجل من روسيا، ومفاده بأن وزير الخارجية سيرغي لافروف يعتبر أن "المسؤولين الأميركيين الذين أفشلوا الاتفاق مع موسكو يعدون خططاً لاستخدام القوة في سورية". سخرية ناتجة من واقعين اثنين: أولاً أكاذيب لافروف باتت تحتاج برأيهم إلى كتاب غينيس خاص بحكام روسيا، وثانياً لأن مستوى استسلام الإدارة الأميركية لموسكو في الملف السوري، وصل إلى مستوى بات معه من شبه المستحيل تصديق أن إدارة باراك أوباما قد تتحرك، في الربع الساعة الأخيرة، ضد الغطرسة الروسية التي لا تواجهها أي إرادة دولية. وعلى الرغم من أن الرأي السائد في واشنطن وفي العالم، يستبعد أي تحرك أميركي أبعد من وقف واشنطن تعاونها العسكري مع موسكو حول سورية، إلا أن البعض لا يزال يتمسك بهواية التحليل في محاولة فهم الاجتماعات المكثفة الأخيرة التي يجريها مستشارو أوباما، مع كبار المسؤولين العسكريين في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، ويصرّ على اعتبار أن خيار التدخل العسكري الأميركي لوقف المجزرة المستمرة في سورية أصبح وارداً، ولو نظرياً، رغم اقتراب موعد مغادرة أوباما البيت الأبيض وانتهاء فترته الرئاسية الثانية، ورغم مسارعة روسيا إلى تثبيت وجودها العسكري في سورية، في هذه الفترة الانتقالية الأميركية، وهو ما يترجم يوم الجمعة بتصويت مجلس الدوما (البرلمان) على الوجود العسكري الروسي في الساحل السوري. ويمضي فلاديمير بوتين جزءاً كبيراً من وقته هذه الأيام، في مراقبة حظوظ مرشحه الأفضل، دونالد ترامب في التغلب على هيلاري كلينتون. فالأول لديه ود كبير لإدارة بوتين، وهو "غير تدخُّلي" عموماً (شأن الجمهوريين الكلاسيكيين تاريخياً)، مع أن هذا الكلام لا يعني بأي حال أن كلينتون "ثورية" تجاه ملفات الشرق الأوسط وفي النظرة إلى أنظمة عربية يرأسها أشخاص مثل بشار الأسد. 

وقد رافقت الأزمة السورية أوباما خلال ولايتيه الرئاسيتين، حتى اعتبرت بمثابة الإخفاق الأكبر للرئيس الديمقراطي، والأرجح أن خلفه سيرث ملفاً شائكاً إذا لم نشهد خلال الشهرين المقبلين تطورات دراماتيكية في الموقف الأميركي ومواقف الأطراف الدولية والإقليمية الاخرى، تضع حداً للنزيف السوري. مؤشرات التحول في موقف البيت الأبيض، أو على الأقل تغير اتجاه وجهة النظر التي باتت تحكم مقاربته للتطورات السورية، بدأت بالظهور مع انهيار اتفاق الهدنة الذي كان قد توصل إليه وزير الخارجية جون كيري مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، وما تبع ذلك من تغطية روسية لقصف طائرات النظام لقافلة المساعدات الدولية إلى حلب، ومن ثم مشاركة موسكو المباشرة بحملة الإبادة الممنهجة التي تتعرض لها المدينة. في حين بدأت معالم التغير في المواقف العلنية لأوباما تجاه سورية بعد فشل القمة التي عقدها مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على هامش اجتماعات مجموعة العشرين في بكين قبل أسابيع. وفي المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس الأميركي بعد القمة، أشار إلى أن ثقته بالكرملين بدأت تتزعزع، تاركاً لكيري ولافروف متابعة المفاوضات على أمل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

بعدها أطلق أوباما تصريحات عدة تضمنت إقراراً مباشراً بفشل الاستراتيجية الأميركية المعتمدة في سورية خلال السنوات الخمس الماضية، معلناً استعداده لمناقشة "كل الأفكار" المقترحة حول طبيعة الرد الأميركي على جرائم نظام بشار الأسد، المدعوم من موسكو وطهران، وتجاوزه مرة جديدة لكل "الخطوط الحمراء" الأميركية الشهيرة بعدم فعاليتها في زمن أوباما. ومع احتدام الخلاف داخل إدارة أوباما بشأن الموقف من التطورات في سورية، وخصوصاً الدور الروسي، بين وزارتي الخارجية والدفاع، انحاز أوباما إلى كيري وفريق وزارة الخارجية، لناحية ضرورة التعاون مع الروس على كافة الصعد، ومنها التعاون العسكري والاستخباري، من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار والسير باتفاق هدنة الأسبوع الذي تضمنت بنوده تنسيقاً عسكرياً واستخبارياً أميركياً مع القوات الروسية بعد تثبيت وقف إطلاق النار. رفض البنتاغون هذه البنود، محذراً وزير الخارجية وفريق أوباما السياسي من مخاطر الثقة بالروس، خصوصاً في ما يتعلق بالقضايا العسكرية والمعلومات الاستخبارية. فقد كان واضحاً للمسؤولين العسكريين الأميركيين أن المحاولات الدبلوماسية للتفاهم مع الروس وإقناعهم بممارسة الضغوط على نظام الأسد ستؤول جميعاً إلى الفشل، وأن تبادل المعلومات العسكرية بين الجيش الاميركي والجيش الروسي، الذي ما يزال العدو الأول للولايات المتحدة في العقيدة العسكرية الأميركية، مسألة تهدد الأمن القومي الأميركي. بناءً على ذلك، يتردد في أروقة الإدارة الأميركية أن وزارة الدفاع، بغطاء من الوزير أشتون كارتر شخصياً، رفضت تبادل معلومات أمنية واستخبارية حول سورية مع الإدارة الروسية، في نوع من "العصيان" السياسي لرغبات البيت الأبيض ووزارة الخارجية.

وتشير تسجيلات وزير الخارجية الأميركية، خلال اجتماعه مع مجموعة من المعارضين السوريين في الأمم المتحدة التي نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز"، إلى أن الخلافات داخل إدارة أوباما ساهمت بشكل كبير في فشل جهوده الدبلوماسية، وأن مفاوضاته مع الروس لم تكن تحظى بدعم وغطاء من المؤسسة العسكرية الأميركية، وهو ما استغله المفاوض الروسي من أجل الإمعان في المناورة والتملص من الالتزامات حتى "الانبطاح" بحسب ما يراه معارضو سياسة التخلي الأميركي عن سورية. ولا يخفى أن العلاقة بين البيت الأبيض والبنتاغون هي أيضاً لم تكن على خير ما يرام خلال السنوات الثماني الماضية، وبرز تباين في وجهات النظر في العديد من القضايا ذات الأبعاد الأمنية والعسكرية، منها ليبيا وسورية. وأفرزت التطورات الأخيرة معادلة جديدة بين أوباما والبنتاغون الذي يبدو أنه تسلم إدارة الملف السوري إلى حين وصول رئيس جديد إلى البيت الأبيض. وأصبح القرار الأميركي في الشأن السوري في عهدة العسكر ووزارة الدفاع بعد إعلان إفلاس كل محاولات كيري الدبلوماسية لوضع حد للحرب في سورية.



وباستثناء خيار فرض عقوبات أميركية وأوروبية إضافية على نظام الأسد وكذلك على حلفائه الروس والإيرانيين، وهو خيار يحبذه أوباما أكثر، لكن فعاليته ترتبط بمدى التزام وتجاوب الأوروبيين معه، فإنه لا يوجد أمام الرئيس الأميركي سوى القيام بعمل عسكري ما في سورية، بمعزل عن حجم هذا العمل وطبيعته ولائحة أهدافه. فالرهان على التوصل إلى اتفاق جديد مع الروس من أجل وقف إطلاق النار بات شبه مستحيل، والاستراتيجية الروسية في سورية أصبحت واضحة الأهداف بعد تملص موسكو من التزاماتها بالضغط على نظام الأسد والانهيار السريع لوقف إطلاق النار الذي استمر أسبوعاً واحداً مليئاً بالخروق الروسية والسورية النظامية، حشدت خلاله قوات النظام والمليشيات التابعة لإيران أكثر من عشرة آلاف عنصر من أجل الهجوم البري على مناطق سيطرة المعارضة السورية في حلب.

وتقول مصادر البنتاغون إن قادة الجيش الأميركي لديهم خطط عسكرية جاهزة لتوجيه ضربات جوية ضد أهداف ومواقع استراتيجية لقوات النظام ومليشيات "حزب الله" (رغم صك البراءة الذي حرره كيري للحزب اللبناني على قاعدة أنه لا يهدد أميركا)، وخصوصاً الحشود العسكرية الكبيرة التي تشارك في الهجوم على حلب. وتشير المصادر إلى أن البحث يتركز حول كيفية تنفيذ ضربات جوية، من دون الاصطدام مع القوات الروسية. طبعاً في جعبة خيارات الإدارة الأميركية أيضاً خطط لتسليح فصائل في المعارضة السورية، والإيعاز للحلفاء الخليجيين بتزويد تلك الفصائل بأسلحة مضادة للطائرات وتحويل سورية إلى أفغانستان أخرى ومستنقع لن يعرف الروس كيف يخرجون منه، على غرار تجربة الإحتلال السوفييتي لأفغانستان في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، والتي كانت أحد أهم الأسباب التي أدت إلى سقوط الاتحاد السوفييتي.


يدرك البيت الأبيض وكذلك جنرالات البنتاغون أن الهجوم على حلب محاولة من النظام، بدعم من الروس والإيرانيين، لفرض أمر واقع عسكري جديد، وتغيير الخريطة الديموغرافية والطائفية السورية من خلال تهجير مئات آلاف المواطنين السوريين من حلب وغيرها من المدن والمناطق المحاصرة في محيط دمشق وإدلب بما يخدم توسيع حدود "سورية المفيدة". كما يدرك الأميركيون أن الروس اختاروا هذا التوقيت لقناعتهم بأن الرئيس الأميركي لن يلجأ إلى اتخاذ خيارات عسكرية حاسمة قبل أشهر قليلة من انتهاء ولايته، وفي ظل احتدام المعركة الانتخابية الرئاسية.