أعاد حديث وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس أمام الكونغرس، الخميس الماضي، إلى الواجهة قضية الوجود الأميركي في سورية، ومنطقة شرق نهر الفرات، ليُظهر وجود مسعى لترتيب وضع المنطقة في مرحلة ما قبل الحل السياسي النهائي لتبقى منطقة نفوذ أميركية، والضغط باتجاه تهيئة الظروف للتقدّم بالحل السياسي من خلال مسار جنيف. غير أن هذا المسار تقابله تساؤلات عن استراتيجية إدارة دونالد ترامب في سورية، وعما إذا كانت هناك "استراتيجية شاملة"، فبعد حديث الرئيس الأميركي عن أنه سيسحب قوات بلاده قريباً من سورية، عاد ماتيس ليؤكد بقاءها في الوقت الحالي، بما أظهر تقلبات أميركية في هذا الملف تشي بغياب أي خطط دبلوماسية لدفع الصراع السوري نحو الحل.
وفي هذا السياق، كشفت مصادر لـ"العربي الجديد"، عن وصول مجموعة من القوات الفرنسية، يُقدر عددها بنحو خمسين جندياً، إلى ريف دير الزور، وتحديداً إلى منطقتي تل أبيض وعين عيسى، شمال مدينة الرقة، حيث انضمت إلى القوات الأميركية الموجودة هناك.
وقبيل تصريحات وزير الدفاع الأميركي، كان الحديث قد بدأ عن تخطيط إدارة ترامب لاستبدال القوات الأميركية في سورية بأخرى عربية، للمساعدة في استقرار الجزء الواقع شرقي نهر الفرات، شمالي شرق سورية، الذي تسيطر عليه "قوات سورية الديمقراطية"، وقد أبدت السعودية موافقتها على إرسال قوات إلى المنطقة، وفق حديث لوزير الخارجية عادل الجبير، الأسبوع الماضي. فيما نقلت وسائل إعلام غربية أن مستشار الأمن القومي الأميركي الجديد جون بولتون، اتصل أخيراً بمدير الاستخبارات المصرية بالوكالة، عباس كامل، لمعرفة ما إذا كانت القاهرة ستسهم في هذا الجهد. فيما أبدى مسؤول في "سورية الديمقراطية" استعداد قواته للتعاون مع قوات عربية، إذا جاءت إلى المنطقة في إطار التحالف الدولي.
وتدل المعطيات القائمة على أن الجهد الأميركي يتركز حالياً على تهيئة البديل للقوات الأميركية في سورية، والتي يُقدّر عددها بنحو ألفي جندي، فيما يبلغ عدد القواعد التي أنشأتها الولايات المتحدة شرق الفرات قرابة 20 قاعدة. ومن المرجح أن تبقى هذه المنطقة كمنطقة نفوذ أميركية بعد أن تعيد واشنطن تسليمها لحلفائها ضمن إطار التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، وذلك من خلال تعزيز وجود بعض القوات الأوروبية، خصوصاً الفرنسية والبريطانية الشريكة أساساً ضمن قوات التحالف الدولي، والتي على الأغلب ستأخذ أدواراً قيادية واستشارية، فيما توكل للقوات العربية المزمع إرسالها مهمة العمليات العسكرية على الأرض، والقوى المرشحة للمشاركة في هذا التحالف حتى الآن هي السعودية ومصر والسودان، وقد تنضم إليها دول أخرى.
كما أن موضوع إعادة انتشار القوات العربية والغربية في شرق الفرات تحت شعار محاربة "داعش" يبدو أن له أبعاداً أخرى غير التخلص من التنظيم، الذي لم يعد يسيطر في المنطقة سوى على جيوب صغيرة يمكن القضاء عليها ببساطة، إذ من شأن الانتشار الجديد في المنطقة أن يفتح الباب من جهة على صراع بين القوى المتحالفة مع روسيا على ملء الفراغ، كما من شأنه أن يشكل ورقة ضغط على روسيا باتجاه إعادة الزخم لمفاوضات الحل السياسي عبر جنيف، بعد أن أفرغتها موسكو من مضمونها وحولتها إلى منصات أخرى برعايتها.
وعلى الرغم من ذلك، لا يبدو أن واشنطن ستقلل جهودها في سورية في الوقت الراهن، ويدخل في هذا الإطار ما كشفته شبكة "سي إن إن" نقلاً عن مسؤولين أميركيين لم تسمهم، من أن هناك تكثيفاً لعمليات مراقبة "تحركات إيرانية مشبوهة" في سورية، وذلك بعد تأكيد ماتيس وجود محاولات إيرانية لإدخال أسلحة متطورة إلى سورية. وأكد المسؤولون أن أقماراً صناعية وطائرات مراقبة وطائرات من دون طيار إلى جانب قطع بحرية أميركية، تكثّف عمليات المراقبة لما يشتبه بأنها محاولات إيرانية لإدخال صواريخ مضادة للطائرات وأخرى باليستية إلى سورية.
غير أن التحركات الأميركية في سورية، لا ترقى إلى مستوى استراتيجية متكاملة حول الوضع هناك، بحسب ما يقول مراقبون ومطلعون على الوضع. وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" أن "استراتيجية شاملة لسورية هي بالضبط ما تفتقر إليه إدارة ترامب، في رأي العديد من المسؤولين الأميركيين والمشرّعين والخبراء الإقليميين والحلفاء". وبحسب الصحيفة، فهناك اتفاق واسع على أن خطة وقف المذبحة السورية تتطلب ما وصفه مسؤول أوروبي "بالمشاركة الحقيقية للولايات المتحدة"، مضيفاً "إذا لم يحصل الأمر كذلك، فإن ذلك يعتبر وصفة لكارثة".
وحذرت الصحيفة الأميركية من أن الانسحاب الفعلي للولايات المتحدة من سورية، سيرسل إشارة خاطئة إلى روسيا، وكذلك إلى رئيس النظام بشار الأسد وإيران، ويقلل الآمال في سلام شامل في سورية. واعتبرت أن هذه الحقيقة بدا أن ترامب كان يلمّح إليها في مؤتمره الصحافي مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد محادثاتهما يوم الثلاثاء الماضي، إذ قال ترامب: "نريد العودة إلى الوطن. لكننا نريد أن نترك بصمة قوية ودائمة".
يذكر أنه تم طرد تنظيم "داعش" من معظم الأراضي التي سيطر عليها في العام 2014 على جانبي الحدود، خصوصاً من مدينتي الموصل العراقية والرقة السورية. لكنه ما زال منتشراً في بعض الجيوب، خصوصاً في محافظة دير الزور في شرق سورية، ويحاول الاستفادة من انسحاب عدد من القوات الكردية التي تم نشرها في شمال سورية لمواجهة هجوم يشنه الجيش التركي. إلا أن مناطق سيطرة تنظيم "داعش" في منطقة شرق الفرات لا تتعدى بضعة جيوب لا يزال موجوداً فيها، على ناحيتي هجين والشعفة، شمال وشمال غرب ناحية البوكمال، قرب الحدود السورية العراقية، وهو أحد آخر جيبين يسيطر عليهما التنظيم في منطقة شرق الفرات في ريف دير الزور، ويضم العديد من القرى والبلدات، أهمها هجين، أبو الخاطر، الكشمة، الشعفة، التي شهدت توقفاً مفاجئاً لعمليات "سورية الديمقراطية" التي تدعمها قوات التحالف الدولي. كما يسيطر التنظيم على جيب آخر، وهو مساحة صغيرة تمتد بين منطقة الهول، جنوب شرق الحسكة، وبادية دير الزور على الشريط الحدودي مع العراق، شرق بلدات مركدة والصور بأكثر من 30 كيلومتراً.
وتسيطر "قوات سورية الديمقراطية" على أكثر من 98 في المائة من ريف دير الزور الواقع شرق نهر الفرات، وقامت طائرات التحالف مراراً بقصف أرتال النظام التي حاولت التقدم إلى مناطق سيطرة "قسد". من جهته، يسيطر النظام في شرق الفرات على نواحي مراط وخشام ومظلوم الواقعة شمال شرق مدينة دير الزور والقريبة من حقل كونيكو الذي تواردت معلومات عن تسليمه من قبل التحالف الدولي و"قسد" لقوات النظام، وهو أكبر حقول الغاز السورية، كما يسيطر النظام على جيب في شمال الميادين عند ناحية ذيبان.
أما في الحسكة، فإن "وحدات حماية الشعب الكردية" التي تقود "قسد"، تسيطر على معظم أجزاء المحافظة، وتوجد إلى جانبها قواعد لقوات التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، فيما يحتفظ النظام بالسيطرة على مطار القامشلي والمنشآت الحكومية شمال شرق الحسكة، والمربع الأمني الذي يضم دوائر النظام في مدينة الحسكة.