وثيقة إسرائيلية: الحكم العسكري لفلسطينيي الداخل ستار لنهب الأراضي

24 يناير 2020
يمارس الاحتلال السياسة العسكرية منذ النكبة (عصام ريماوي/الأناضول)
+ الخط -
جرت العادة على اعتبار الحكم العسكري الذي فرضته دولة الاحتلال الإسرائيلي على ما تبقى من أبناء الشعب الفلسطيني، بعد النكبة، داخل فلسطين التاريخية في أراضي 1948، وسيلة للقمع السلطوي للفلسطينيين وأداة لإدارة الصراع مع البقية الباقية داخل حدود ما بات يسمى دولة إسرائيل. هذه النظرة إلى سياسة الحكم العسكري المشدد الذي فُرض على نحو 200 ألف فلسطيني، تحمل كثيراً من الدقة والصحة التاريخيتين لجهة كون الحكم العسكري المذكور، فرض قيوداً هائلة على حركة الفلسطينيين في الداخل ومنعهم من التنقل داخل الوطن عبر اشتراط الحصول على تصريح خاص من الحاكم العسكري ولو لغاية العلاج الطبي. كما وفر هذا الحكم العسكري أداة سيطرة منحت الدولة الجديدة وسائل للهيمنة على وعي الفلسطينيين في الداخل ومحاولة هندسة هذا الوعي لبناء "عربي إسرائيلي"، من جهة، ومنع تبلور طبقة وسطى صغيرة قادرة على أن تكون بذرة لنمو حركات وطنية تغرد خارج الخط الرسمي المسموح به، من جهة أخرى.

في سياق الحكم العسكري، تمّت عمليات سرقة الأراضي، وفقاً لوثيقة رسمية كشفها المؤرخ الإسرائيلي، آدم راز، في معهد "عكفوت"، معتبراً أن أحد الأسباب الرئيسية للإبقاء على نظام الحكم العسكري، على الرغم من أن "الشاباك" (المخابرات الإسرائيلية) كانت قد قدّرت منذ أواسط الخمسينات أن الأقلية الفلسطينية في الداخل لا تشكل تهديداً لأمن الدولة، هو استخدام أنظمة هذا الحكم وقيوده، ستاراً وأداة في الوقت نفسه لتسهيل وتحقيق سرقة ونهب الأراضي الفلسطينية الواسعة بعد النكبة، سواء المساحات التي كانت عائدة للقرى الفلسطينية التي هجّر أصحابها منها، أو القرى التي بقي أهلها فيها على الرغم من حرب النكبة ولم يغادروها.

الوثيقة تمكّن راز من إعادة استخراجها من أرشيف مئير يعري (الزعيم التاريخي لحزب مبام)، بعدما حاولت اللجنة الأمنية الخاصة في وزارة الأمن إخفاءها عن أنظار الباحثين، ضمن سلسلة عملية متواصلة، على مر العقدين الأخيرين لسحب الوثائق التاريخية التي تكشف جرائم وممارسات دولة الاحتلال في سنواتها الأولى، وحتى إبان حرب فلسطين، من الأرشيفات الإسرائيلية المختلفة. هي وثيقة نشر راز صورة عنها في صحيفة "هآرتس" وتؤكد كيف استعانت دولة الاحتلال بأنظمة الطوارئ البريطانية ونظام الحكم العسكري لتسهيل سرقة الأراضي ونهبها وتسجيلها بملكية الدولة ثم إقامة مستوطنات أطلق عليها اسم مستوطنات أمنية على هذه الأراضي.

راز، الذي سبق له أن أصدر العام الماضي كتاباً أكد فيه عبر وثائق رسمية أن مذبحة كفر قاسم، عام 1956 كان الهدف منها وخلافاً للدعاية الإسرائيلية، ترويع سكان قرى المثلث الجنوبي، ودفعهم للهجرة والفرار شرقاً باتجاه الضفة الغربية التي كانت لا تزال تخضع للحكم الأردني، أكد أن ادعاءات ديفيد بن غوريون، رئيس حكومة إسرائيل ومؤسسها الفعلي، بأن فرض الحكم العسكري على الفلسطينيين كان لحماية أمن الدولة، لم تكن حقيقية وأنها كانت ستاراً لعملية الاستيطان ونهب الأراضي. وأوضح راز أن السيطرة على عملية نهب الأراضي تمّت من خلال المادة 125 من أنظمة الطوارئ البريطانية، والتي لا تزال سارية حتى اليوم. ويجيز البند المذكور السيطرة على كل أرض من خلال أمر عسكري بخصوصها.

وأورد راز مقطعاً من وثيقة رسمية يعترف خلالها بن غوريون في جلسة رسمية لحزبه بأنه "من دون البند 125 المذكور، لم نكن لنستطيع فعل ما قمنا به في الجليل والنقب، فالجليل الشمالي هو منطقة يودن راين (تعبير ألماني يعني أنها منطقة خالية من اليهود)". وقد استغل بن غوريون أنظمة عسكرية لمنع الفلسطينيين المهجرين في الداخل من العودة إلى قراهم التي هجروا منها كما في حالات مثل قرى اللجون كفر برعم وإقرث والغابسية. ومن خلال أنظمة عسكرية وأخرى إدارية، تمكنت دولة الاحتلال من منع حركة تنقل الفلسطينيين في الداخل، ومنع تجمهر أو تحرك جماهيري واسع لمعارضة عمليات الاستيلاء على الأراضي وإقامة المستوطنات الجديدة.

وبحسب ما أورده راز، فقد اعتادت دولة الاحتلال بعد النكبة تحديد مناطق واسعة من الأراضي على أنها مناطق مغلقة لا يجوز الدخول إليها، وهي أراضٍ في قرى عربية. وأقر بن غوريون في الجلسة المذكورة بأن "المناطق الممنوع دخولها هي من وجهة نظر العرب، أراضيهم هم"، و"قد تكون قانونياً لهم أيضاً لأنها أراضٍ عربية". وأقر راز بوجود ملحق سري للجنة الجنرال احتياط يوحنان روتنير، التي تشكلت في عام 1956 للبت في إبقاء الحكم العسكري على الفلسطينيين في الداخل، تبيّن الأسباب والدوافع الحقيقية للإبقاء على نظام الحكم العسكري.

وبموجب الملاحق السرية للوثيقة، فإن "مناطق واسعة جداً قد تفلت من قبضة الدولة نتيجة للانتقادات الموجهة لنظام الحكم العسكري وعدم الاستقرار النابع عن مجرد التحقيق في هذا الأمر". وأوضح أعضاء اللجنة المذكورة أنه لن يكون بمقدور الجيش لوحده الحفاظ على "أراضي الدولة"، وفقط من خلال الاستيطان اليهودي المسمى "الاستيطان الأمني" يمكن ضمان بقاء هذه الأراضي تحت سيطرة الدولة، ولذلك تجب إقامة بؤر استيطان يهودية في المناطق الرئيسية الثلاث التي تخضع للحكم العسكري: النقب والمثلث والجليل.

وأوصت اللجنة باتباع طرق تشريع وسن قوانين جديدة لمنع المهجرين الفلسطينيين، الذين ظلوا داخل حدود دولة إسرائيل، من العودة إلى قراهم. وقد تم في تلك الفترة تقسيم هذه المناطق الثلاث إلى مربعات، أو مناطق عسكرية مغلقة يمنع الدخول إليها، مما منع المهجرين خلال حرب النكبة من العودة إلى بيوتهم وقراهم، لأن التنقل من منطقة لأخرى كان مشروطاً بتصريح أمني خاص.

في هذا السياق، أشار راز إلى أن اللجنة عارضت بشدة قراراً سابقاً لوزير الأمن بنحاس لافون ألغى تقسيم منطقة الجليل لأربعين ناحية، وجعلها منطقة واحدة يمكن التنقل فيها بسهولة وحرية. كما أوصت اللجنة المذكورة بتغيير قانون الأراضي العثماني من العام 1858، ولا سيما البند الذي يمنح من فلح أرضاً وسكن فيها لعشر سنوات فما فوق، حقوق ملكية عليها. وشكل الملحق السري للجنة روتنير عملية خريطة عمل، إذ نصح بإبقاء الحكم العسكري في المناطق التي توفرت فيها مساحات واسعة من الأراضي إلى حين توفر فرصة ليستوطنها اليهود ولتغيير هوية السكان فيها.

المساهمون