يثير إقدام الحكومة السودانية الانتقالية على اتخاذ قرارٍ بجمع السلاح غير المقنن من أيدي المدنيين، الشكوك حول جدوى ومدى نجاح الخطوة، وذلك بعد فشلٍ تاريخي لمحاولات سابقة لجمع السلاح، آخرها من نظام الرئيس المعزول عمر البشير، وقبل الإقدام على خطوات ملموسة لتحقيق السلام والمصالحة الشاملة في البلاد.
وأمرت لجنة عليا لجمع السلاح، برئاسة نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أول من أمس الأحد، كلّ ولاية من ولايات السودان بتشكيل قوةٍ مشتركة من الأجهزة الأمنية والعسكرية، لجمع السلاح غير المقنن من أيدي المدنيين. ويعاني السوادن، لا سيما ولاياته الحدودية، من انتشار السلاح بكثافة، وخصوصاً في إقليم دارفور، غرب البلاد، الذي شهد حرباً أهلية منذ العام 2003.
وقال المتحدث باسم اللجنة العليا لجمع السلاح عبد الهادي عبد الله عثمان، في تصريحٍ صحافي، إن قرارات اللجنة شملت كذلك توفير أجهزة كشف وكلابٍ بوليسية للبحث عن الأسلحة التي يخبئها المواطنون في كلّ الولايات، مع حظر استخدام عربات الدفع الرباعي إلا بواسطة القوات النظامية، على أن تصادر كلّ عربةٍ بحوزة مواطن. كما شملت القرارات، طبقاً لعثمان، مصادرة كلّ العربات غير المقننة والتي دخلت البلاد بطريقة غير مشروعة، ومنح فرصة لتلك الموجودة في حظيرة الجمارك من أجل تخليصها بواسطة أصحابها، مع مصادرتها في حال عجزهم وفقاً لقانون الجمارك. كذلك أمرت اللجنة العليا بحظر استخدام الدراجات النارية في كل الولايات الحدودية، بحجة استخدامها في ارتكاب الجرائم.
وللسودان قصةٌ طويلة مع انتشار السلاح بصورةٍ عشوائية منذ سبعينيات القرن الماضي، إذ أثّرت الحروب في دول الجوار، مثل الحرب في تشاد غرباً، وتلك التي اندلعت بين إثيوبيا وإريتريا شرقاً، في انتشار كميات من السلاح بواسطة مجموعات تخرج وتدخل إلى الحدود السودانية المفتوحة دون أدنى صعوبة، كما انتشرت على الحدود أيضاً تجارة السلاح عبر مجموعات عابرة لها، تنشط في غرب أفريقيا وشرقها ووسطها.
وتلعب الثقافات المحلية، في كثيرٍ من الأحيان، دورها أيضاً في نشر السلاح، إذ ارتبط امتلاكه بالزعامة والمكانة المحلية والشجاعة والتميُّز، وساهمت عوامل النزوح والفقر والبطالة في بعض المناطق، في امتهان مجموعات للنهب المسلح.
انتشار السلاح غير المرخص دخل أيضاً في الصراعات السياسية، إذ خرجت في أزمان متفاوتة مجموعات سياسية على أنظمة الحكم في الخرطوم وتمردت عليها باستخدام السلاح، كما حدث في الجنوب قبل انفصاله، ومن حركات التمرد في دارفور، أو الجبهة الوطنية عام 1976 والتجمع الديمقراطي 1995.
وفي عهد نظام البشير حدث الأسوأ، بتسليح كثيرٍ من القبائل في دارفور وكردفان، لمساعدته في الحرب على التمرد، فقام بتوزيع السلاح بطريقة غير قانونية، ومن دون مستندات، كما أن غالبية اتفاقياته مع المليشيات القبلية التي تخوض معارك ضد التمرد، تنصّ شفاهةً على قسمة غنائم المعارك، بأن تكون الأسلحة الصغيرة من نصيب المليشيات، والأجهزة الثقيلة من نصيب الحكومة.
وخلال السنوات الأخيرة من عمره، عمد نظام البشير إلى تنفيذ حملةٍ واسعة لجمع السلاح في كل الولايات، وذلك عبر لجنة ترأسها نائب رئيس الجمهورية حسبو محمد عبد الرحمن. وتضمنت الحملة مرحلتين، الأولى اختيارية والثانية باستخدام القوة. وبحسب مصادر "العربي الجديد"، فإن اللجنة لم تجمع طوال ثلاث سنوات إلا نحو 17 قطعة سلاح في إطار المرحلة الاختيارية، في حين لم تعمد إلى تنفيذ المرحلة الثانية الخاصة بالجمع عن طريق القوة، حتى سقوط البشير في العام الماضي.
وليست هناك أي إحصاءات دقيقة حول عدد قطع الأسلحة عند المدنيين في السودان، وتختلف التقديرات ما بين مليون وستة ملايين قطعة.
وقال اللواء المتقاعد أمين إسماعيل مجذوب، لـ"العربي الجديد"، إنه بحكم عمله في كثير من مناطق دارفور وغيرها من مناطق النزاع، فإن السلاح الموجود خارج أيدي القوات النظامية، لا يقل عن مليوني قطعة ما بين الكلاشنكوف والمسدسات العادية والأسلحة الثقيلة مثل "آر بي جي" والدوشكات، هذا غير عربات الدفع الرباعي. وأوضح مجذوب أن انتشار ظاهرة السلاح غير المقنن ترك جروحاً عميقة في الأمن القومي السوداني، وساهم في تقليص مشاريع التنمية والاستثمار، وزاد من وتيرة النزاعات القبلية التي تحصد آلاف الاشخاص سنوياً، كما أنه تسبب في موجات نزوح كبيرة بحثاً عن الموارد، وفي تغيير ديمغرافي غير محسوب، عدا تأثيراته الأمنية بزيادة حركات التمرد التي تجد السلاح في متناول يدها.
وأوضح مجذوب أن اللجنة الجديدة برئاسة حميدتي، ستواجه عقبات مماثلة لما حصل في عهد البشير، خصوصاً في ظلّ النزاعات القبلية الحالية التي ظهرت أخيراً في كل من نيالا والجنينة وبورتسودان وكسلا، لأن تلك القبائل تعلم الحاجة للسلاح في هذا الوقت بسبب عدم الاستقرار الحالي، مشيراً إلى أن عملية الجمع تحتاج إلى جمع معلومات أولاً، وإلى طائرات مسيّرة، وأجهزة للكشف عن الأسلحة وأماكن تخزينها وإشراك القبائل.
ولا يبدو الكاتب الصحافي إبراهيم عربي أكثر تفاؤلاً، اذ رأى أن كل محاولات جمع السلاح منذ العام 1990 لم يكتب لها النجاح، بما في ذلك الحملة الأخيرة لنظام البشير والتي ذكر أنه كان قريباً منها وغطى معظم أحداثها. وأوضح عربي، لـ"العربي الجديد"، أن اللجنة السابقة في عهد البشير تشكلت من مكونات اللجنة الحالية ذاتها، وأن حميدتي نفسه وياسر العطا، عضوي مجلس السيادة الحالي، كانا عضوين في اللجنة السابقة، ويدركان حجم المشاكل التي واجهت اللجنة السابقة. وأشار إلى أن لجنة نظام البشير قدمت مقترحات بمنح مقابل مادي لكل من يسلم سلاحه: على سبيل المثال، منح 6 آلاف جنيه لكل من يسلم كلاشنكوف، ولكن الحكومة وجدت حينها أن المبلغ كبير جد، مقارنة بعدد قطع الأسلحة التي يقدرها عربي بنحو 6 ملايين قطعة.
وأكد عربي أن المهمة صعبة جداً، لا سيما بعد تصاعد الصراع في ليبيا المجاورة والحدود المفتوحة التي تدخل عبرها حتى حركة "بوكو حرام" الإسلامية المتطرفة (نيجيريا)، مشيراً إلى أن النجاح لحملة حميدتي مرتبط بالتوافق بين القبائل وتحقيق السلام وتسليم الحركات المسلحة المتمردة لأسلحتها، وأن تكون آليات حلّ المشكلة ليست جزءاً من الصراع كما كانت حال قوات الدعم السريع قبل العام 2014.
واتفق القيادي في "الجبهة الثورية"، عبد العزيز نور عشر، مع عربي على أهمية تحقيق السلام في كل مناطق السودان كمدخلٍ صحيح لجمع السلاح، لأن ثقافة عدم الأمان هي التي تفرض على المواطنين اقتناء السلاح، فضلاً عن الإحساس العام بأن الدولة غير قادرة على توفير الأمن وغير قادرة على حماية مواطنيها، بل منحازة في بعض النزاعات لطرف ولا تأخذ مواقف متساوية من كل الأطراف. وأكد عشر لـ"العربي الجديد"، أنه "في حال توفرت الكثير من تلك الشروط، وتمّ إصلاح المؤسسات الأمنية والعسكرية، فلن يجد أي سوداني نفسه بحاجة لحمل السلاح، سواء لحماية نفسه أو للتمرد على الدولة المركزية".
من جهته، شدد الأمين السياسي لحزب "المؤتمر الشعبي" المعارض إدريس سليمان، في حديث لـ"العربي الجديد"، على أن خطوة جمع السلاح غير المقنن أمر ضروري وجوهري، لكنها لن تنجح لو أديرت بالطريقة السابقة التي تجاوزت تحقيق السلام وتهيئة البيئة الاجتماعية من مصالحات وسلم اجتماعي وإرساء دعائم الأمن وتحقيق التنمية وتوفير الخدمات، لافتاً إلى أن تلك الشروط يجب أن يسبق تنفيذها أي محاولة جديدة لجمع السلاح، وإلا ستكون فقط محاولة من باب العنتريات.