وجاء ردّ الفعل الأول من الرئيس قيس سعيّد، الذي عاد في اجتماع حول الأزمة إلى إحياء اقتراح قديم له يعود إلى بدايات الثورة التونسية (2010)، عندما صدرت قائمة تضم 460 متهماً بالفساد والثراء غير المشروع قبل الثورة. وقتها طرح سعيد فكرة إبرام صلح جزائي مع هؤلاء، عبر ترتيب المعنيين بالأمر وفقاً للمبالغ المحكوم بها عليهم، من الأكثر تورطاً إلى الأقل تورطاً، في مقابل ترتيب المعتمديات (المستوى الثاني من التقسيم الإداري في تونس بعد المحافظات) في تونس من الأكثر فقراً إلى الأقل فقراً. ووفقاً لذلك، يقوم المحكوم عليه، في إطار الصلح الجزائي، بإنجاز المشاريع التي يطالب بها الأهالي في كل معتمدية (بنى تحتية، مؤسسات استشفائية، مؤسسات تربوية وغيرها). والمحكوم عليه بالمبلغ الأكبر يذهب إلى المنطقة الأكثر فقراً لتمويلها، تحت إشراف هيئة قضائية، مع إنشاء هيئات جهوية (محلية) في كل ولاية تتولّى التنسيق والمراقبة.
وأثار طرح سعيّد هذه الفكرة من جديد هلعاً لدى رجال الأعمال والمؤسسات الاقتصادية، لكنه لم يكن الوحيد، إذ تحدث رئيس الحكومة الياس الفخفاخ بدوره عن إمكانية اتخاذ إجراءات جديدة في هذا الاتجاه. ولم يستبعد، في حوار له يوم الخميس الماضي، احتمال اللجوء إلى ضرائب استثنائية، قبل أن يستدرك بالقول: "أرجو ألا نضطر لذلك". وأضاف: ''نحن في حرب ضد فيروس كورونا ووجب تعبئة الموارد لهذه الحرب، إما من الخارج أو من الشركات والمؤسسات التي يمكنها أن تساهم'"، موضحاً أن تصريح رئيس الجمهورية لم يتحدث عن مصادرة أموال رجال الأعمال، بل فُهم اقتراحه بشكل خاطئ، قائلاً: ''مؤسف أن نذهب إلى معارك جانبية".
وفي لقاء مع رجال الأعمال، يوم الجمعة الماضي، فنّد سعيّد ما يتم تداوله حول "المصادرة"، مشدّداً على أن "القضاء المستقل هو الذي يجب أن يتولى النظر في هذه الملفات". وجدّد تأكيد "رفضه أي تسويات خارج إطار القانون"، وأنه "لا مجال للابتزاز ولا مجال للاستثناء، فكل التونسيين متساوون أمام القانون".
وإذا كان سعيّد والفخفاخ قد نفيا وجود نية المصادرة، إلا أنهما لم يتراجعا عن أفكارهما. فذكّر الرئيس التونسي بمبادرته أمام رجال الأعمال أنفسهم مع التركيز على تنفيذها قضائياً. كذلك لم يستبعد الفخفاخ مجدداً فكرة فرض ضرائب جديدة. موقف الرجلين دفع منظمة رجال الأعمال للتعبير في بيان عن "أسفها للتشكيك بشكل أو بآخر في المؤسسات الاقتصادية وفي القطاع الخاص المنظم وفي دورهما الوطني"، منبّهة إلى مخاطر ذلك، مع دعوتها إلى الترفع عن الاتهامات والمزايدات، باعتبار أن تونس في أشدّ الحاجة اليوم إلى الوحدة الوطنية والوقوف صفاً واحداً لمواجهة تداعيات تفشي فيروس كورونا.
وكسب الفخفاخ دعماً واسعاً، مع تفويض البرلمان صلاحياته له، لمدة شهرين، مساء أول من أمس السبت، من أجل مواجهة وباء كورونا. وذكر الفخفاخ أن الحكومة أعدّت مجموعة من النصوص القانونية وتنتظر المصادقة على التفويض حتى تصدرها، وأن طلب التفويض لم يكن في إطار التنازع على الصلاحيات وإنما استباقاً لتطورات الأزمة.
من جهته، اعتبر المحلل السياسي، قاسم الغربي، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أنّه منذ اختيار رئيس الجمهورية، قيس سعيّد لرئيس الحكومة الياس الفخفاخ، طرحت تساؤلات عدة حول مقاييس هذا الاختيار، إذ تحدث البعض عن اعتبارات فردية، غير أنه كانت هناك قناعة لرئيس الجمهورية منذ البداية بأن أساس هذا الاختيار هو مشروع الدولة الاجتماعية وملامحه، والذي يمكن فهمه من خلال انتماء الفخفاخ للكتلة الاجتماعية الديمقراطية، وبالعودة أيضاً لبعض التصريحات والخطوط العامة للحملة الانتخابية لسعيّد. وأوضح الغربي أنّ أهم نقطة مشتركة بين سعيد والفخفاخ هي التصور الاجتماعي للدولة، وبالتالي فالتحدي الذي حصل والأزمة العالمية بسبب كورونا جعلا هذا المشترك يطفو على السطح مجدداً. وأضاف أن الخطاب الأخير للفخفاخ كان واضحاً، وأنّ التوجه هو نحو دعم الدولة في خياراتها الاقتصادية والاجتماعية الكبرى، وفقاً لما برز من خلال كلمة سعيّد على هامش اجتماع مجلس الأمن القومي، عبر التركيز على الدور الاجتماعي للدولة.
بدوره، أشار النائب في حركة الشعب، خالد الكريشي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ الحكومة أمينة لطبيعتها الديمقراطية الاجتماعية، وهذا طبيعي لأن رئيس الحكومة من العائلة الديمقراطية الاجتماعية، وأغلب مكوناتها كذلك. وبالتالي كانت الدعوة لتضافر الجهود في مواجهة أزمة كورونا. وأضاف أنّ الدعوة موجّهة لأرباب العمل بالمساهمة لمواجهة الأزمة، ومع أن التبرّع اختياري، غير أن هناك العديد من الحلول القانونية التي يمكن اللجوء إليها لتوحيد الصف من أجل مشاركة العمال وأرباب العمل والفلاحين وبقية القطاعات. وأكّد الكريشي أنّ هذا الخطاب السياسي فرضته المرحلة الحالية والاستثنائية التي تمرّ بها تونس والتي تتطلب خطاباً استثنائياً، مضيفاً أنه كان يفضل لو أن رجال الأعمال بادروا بالتبرع تلقائياً أو الاقتداء ببعض الدول مثل إيطاليا والمغرب. ولفت إلى أنه صحيح أن هناك تبرعات، ولكنها لا تزال دون المأمول لتلبية الاحتياجات الاجتماعية وتأمين الخدمات الطبية.
أما القيادي في حركة النهضة، خليل العماري، فرأى أنّ الأزمة الحالية تمثل فرصة للمؤسسات والرأس المال الوطني لإثبات قيم التضامن الاجتماعي، وقد سبق للحكومة أن بادرت باتخاذ جملة من القرارات المهمة لفائدة المؤسسات الكبرى والمتوسطة، والمطلوب مزيد من التعاون والتضامن، وخصوصاً أن الأزمة تفرض إجراءات اجتماعية عدة. وأضاف العماري، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن التحدي اليوم أمام المؤسسات الوطنية هو رفع مساهمتها، خصوصاً أن التبرعات من الخارج ومن المؤسسات الأجنبية كانت كبيرة، قبل أن تلتحق بها مؤسسات تونسية وأفراد مع تقديمهم مبادرات تندرج في المد التضامني، وهو ما يصبّ في صالح البلاد والاقتصاد عموماً.
ولفت العماري إلى أنّ خطاب كل من رئيس الجمهورية والحكومة الموجه لرجال الأعمال مهم، ولكن هناك دستوراً وقانوناً، فالسلطة التنفيذية لا يمكنها أن تتخذ قرارات تتعدى ما يسمح به التشريع والدستور الذي يحمي حقوق الأفراد. وبرأيه فإنه في الأزمات، من المستحسن أن تكون المبادرة فردية، أي أن تستجيب المؤسسات للخطاب السياسي وإلى الدعوة للمساهمة، لأنه في غياب الاستجابة يمكن أن تسنّ الدولة قوانين تشريعية، من خلال زيادة الجباية واتخاذ قرارات قد لا تكون بمثابة الحلّ الأفضل ولكنها تبقى خياراً أخيراً. وأوضح العماري أن الوضع صعب، ولكل مؤسسة تعقيدات وظروف، بالتالي يفضّل أن تكون المساهمات تلقائية، وكل حسب قدرته وحسب احتياجاته. ولفت إلى أن هناك حدوداً للسلطة التنفيذية في تونس، ففي بلدان أخرى هناك إجراءات مختلفة في الأزمات وعند فرض قوانين طوارئ.
أما الخبير الاقتصادي محسن حسن، فرأى أن تجاوز تداعيات أزمة كورونا لإمكانات الدولة، يدفع المسؤولين في تونس نحو الإلحاح على ضرورة توفير دعم مالي إضافي، عن طريق التبرعات التي يمكن جمعها من الأفراد والمؤسسات. وأكد حسن، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن وضع المالية العامة الصعب قد يجبر الحكومة على تعبئة الموارد المالية عبر قنوات غير تقليدية، منها تبرعات رجال الأعمال والمجمعات العائلية التي تحقق أرباحاً كبيرة عبر الاقتصاد الريعي واحتكارها لأنشطة ذات ربحية عالية. وأشار إلى أن حجم التبرعات المقدم من قبل بعض رجال أعمال تونسيين ومجموعات اقتصادية يعدّ ضعيفاً جداً مقارنة بالتبرّعات التي قدمها رجال أعمال في دول مجاورة لتونس، ما يفسّر إلحاح سعيد والفخفاخ على ضرورة قيام أصحاب الثروات في تونس بواجبهم تجاه بلادهم في هذا الظرف الصعب. كذلك فسّر تأثّر خطابي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة بانتماء الطرفين إلى العائلة السياسية الاجتماعية، التي تولي أهمية كبيرة لدور الدولة الاجتماعي القائم على التضامن بين جميع الأطراف.
غير أن حسن أكد أن دوافع التلميحات المتكررة لكل من سعيّد والفخفاخ بضرورة تخصيص مساهمة أكبر لرجال الأعمال في مجهود مكافحة كورونا، لا يعتبر تحريضاً على القطاع الخاص الذي يوفر 70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وأفاد حسن بأن رجال الأعمال والمجمعات العائلية الكبرى استفادوا من كل الأنظمة السياسية والحوافز الجبائية المهمة التي توفرها الدولة للمستثمرين، وهم مدعوون للقيام بدور اجتماعي أكبر في هذه الفترة الصعبة.