لم يعد الليبيون يقتنعون بشيء اسمه "الصدفة" في مشهد بلادهم المتحوّل والمتغيّر في كل لحظة لتتراكم فيه الأزمات. فقد حملت أغلب تعليقاتهم على منصات التواصل الاجتماعي، وهي آخر ما بقي لهم من متنفس وفضاء للتعبير عن آرائهم، أسئلة عن انهيار صحة المبعوث الأممي المستقيل غسان سلامة، بشكل مفاجئ، بشكل لم تعد تسمح له بمواصلة طيرانه بين جنيف والقاهرة، حيث تعقد جلسات المسارات الثلاثة المتمخضة عن مؤتمر برلين، وهو الذي في إبريل/ نسيان من العام الماضي تعرّض لحرج كبير عندما كان برفقة رئيسه أنطونيو غوتيريس في طرابلس، يعدّان للحظات الأخيرة لإطلاق الملتقى الوطني الجامع في مدينة غدامس، ليفاجأ بجحافل عسكر خليفة حفتر تدقّ أبواب العاصمة غير بعيد عن مقر إقامتهما.
كما عايش على مدار 11 شهراً مشاهد من الدماء والأشلاء التي تتكرر كل يوم في طرابلس ومحطيها، غير أنه عندما تنفس الناس الصعداء وظهر بصيص أمل في آخر النفق، أعلن سلامة عن استقالته التي قيل إنها فاجأت حتى غوتيريس نفسه، وأدخلت أروقة الأمم المتحدة في جدل!
وسبق أن استدعت كثير من الأوساط الليبية إلى الأذهان أيام بعثة الإسباني برناردينو ليون، فالظروف ومسار الأحداث تتشابه، والغريب أن يتأكد ذلك اليوم. فكما ترك ليون الباب مفتوحاً لكل التأويلات لبنود اتفاق فضفاض أُعلن في منتجع الصخيرات المغربية نهاية عام 2015، ترك سلامة الساحة بعدما ورّط الليبيين في اتفاق ذي ثلاثة مسارات بدأه ولم ينهه، ليتركه أيضاً حجة عليهم لا لهم.
وعلى الرغم من محاولة كثير من المراقبين من خارج ليبيا تكهّن أسباب استقالة سلامة، بالقول إنها جاءت بسبب تعنّت وتصلّب مواقف الأطراف الليبية، إلا أنّ التعنت وعدم المرونة كان رفيقاً لكل المبادرات السابقة، فما الجديد إذاً؟
الإجابة تكمن في حقيقة ما حملته تلك الغرف المقفلة التي استضافت قادة الدول المتنفذة في الملف الليبي في برلين يوم 19 يناير/ كانون الثاني الماضي. تلك القمة التي حضّر لها سلامة لأشهر عدة، ولم يفتأ يتفاءل بمخرجاتها في كل تصريح وإحاطة. فعلى الرغم من تأكيده أنها حلحلت الخلافات الدولية ونجحت في تحييد أثرها، لتكون عاملاً داعماً لنجاح المسارات الثلاثة، إلا أنّ الواقع يقول غير ذلك. فقد ربطت الإمارات جسراً جوياً بين قاعدتي الظفرة والخادم لتوصيل أكثر من 6300 طن من العتاد العسكري. واستحوذت القاهرة على مخرجات المسار الاقتصادي الذي تزامن مع دفع أبوظبي لمجموعات قبلية توالي حفتر لغلق المنشآت النفطية، وسط صمت دولي مريب، ومن سلامة نفسه.
أمّا تركيا التي وصلت إلى طرابلس لربط أحلاف معها، أمنية وبحرية، فقد زُجّ بها في مواجهة مع روسيا، لتصل تأثيراتها إلى محيط ما يجري في طرابلس.
ويتساءل أحد النشطاء الليبيين قائلاً: "أين وجدتم الأمم المتحدة تدخّلت في منطقة صراع وجاءت بحلّ"، مضيفاً: "أينما وجد مبعوثوها وجدت إدارة للفوضى وتوجيه للأزمات لصالح دول كبرى يتعاقب من ترشحهم على تمثيل الأمم المتحدة فيها".
ومقابل قلق أميركي كبير من تزايد الوجود الروسي في ليبيا، تتداول وسائل إعلام نقلاً عن مصادرها، أنّ نائبة سلامة، الدبلوماسية الأميركية ستيفاني ويليامز، تستعد لشغل منصبه.