يصعب وصف الحالة الفلسطينية في أميركا اللاتينية من دون أن يكون المرء بينهم، وهم أهل تجربة هجرة طويلة، وأجيال ولدت من صلبهم. هي حقيقة أن بعضهم لم يرَ أرض أجداده، وعلى الرغم من ذلك فأجوبتهم تتشابه عن هذا الدفق والحماسة في الالتصاق بمدن الأجداد، مرددين ومشيرين إلى أن عروق الدم "تسري هنا"، وهم يجتمعون بالآلاف يحضرون لمهرجان "تقاليد" من جنوب القارة إلى شمالها.
بالنسبة لهؤلاء المقيمين في البيرو مثلاً، حديثهم هو عن "المواطنة والاحترام" وأن المكانة "لم تأتِ من دون كفاح مرير لتحصيل لقمة العيش"، كما يذكر، لـ"العربي الجديد"، نائب مدير النادي العربي الفلسطيني في ليما، خافيير حرزي، ابن بيت جالا بالأصل. تغيّر حال المهاجرين الأوائل من "تجارة الشنطة" (الحقيبة) إلى ملاك صناعة النسيج، وثراء الحال والعيش الكريم، لم ينسِ هؤلاء، ولا الذين انحدروا منهم، أصولَهم، كما لم تمنعهم التقلبات السياسية والاقتصادية من شق طريقهم نحو مكانة مميزة في السياسة والثقافة والاقتصاد. واقع فلسطينيي البيرو، على قلتهم، يتحدث عن إنجازات سياسية واجتماعية، وضعت فلسطين بوصلتها، حتى صار لها ساحتها في العاصمة ليما، ومكانتها لدى شعبها، من دون إغفال الدور المؤثر الذي تقوم به سفارة فلسطين في هذا البلد.
عبر خوض تجربة السياسة، وصل من جالية صغيرة، لا تتجاوز الـ20 ألفاً، عمر شحادة إلى نائب رئيس البلد حتى 2016، ورئيس المحكمة الدستورية الحقوقي أوسكار وربيلا حتي، الذي كان عمدة أومالا لـ10 سنين، ورئيس البرلمان دانيال أبو غطاس، وعمدة مدينة سان ميغال سلفادور حريزي، وأمين الرقابة في الدولة (الأومبوسمان) الحقوقي فؤاد كوري، ومديرة متحف الفن الحديث في ليما نتاليا مخلوف. وتطول قائمة رحلة كفاح طويلة قامت على احترام البيرو لمن حضر إليها على ظهر بواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن الماضي.
لكن، في كل ما تقدّم، يراقب الآتي مشهداً يصعب اختزاله، المقاربة بين واقعهم وواقع إخوتهم من أنظمة "العربية السعيدة"، وما تفرع عنها من بؤس واقعنا. فليت الأمر توقف عند جعل الاستبداد لـ"الإخوة الفلسطينيين" مشبوهين ضمناً، على طريقة الاحتلال. وما أصعب أن تقارن بين إصرار على تغول استهداف حرفي، اعتقالاً وقتلاً، وتدميراً لمخيماتهم وهضم حقوقهم باسم "منع التوطين" أو "الحرص على أن لا ينسوا قضيتهم"، وبين دول عرفت كيف تتعايش مع تعدديتها من دون ملاحقة البشر على أصلهم أو قضيتهم.