هذه التطورات دفعت قوات الأمن العراقية إلى تعزيز تواجدها في محيط القنصليات الإيرانية الثلاث في الجنوب، في البصرة والنجف وكربلاء، مع إغلاق تام للطرق المؤدية إليها، وتكديس الكتل الخرسانية حولها تحسباً من إقدام المتظاهرين على اقتحام هذه القنصليات كما فعلوا عام 2018 في البصرة، خصوصاً أنهم يحاولون منذ ثلاثة أيام اقتحام القنصلية الإيرانية في كربلاء.
وتكرّر المشهد في التظاهرات التي بدأت في أكتوبر الماضي، في بغداد وكل مدن الجنوب، إذ رُفعت صور خامنئي وقد رُسمت عليها علامات الرفض، كما صور الخميني وسليماني، وتم حرقها وتمزيقها. ولم يكتف المتظاهرون بذلك، فقد حاصر شبان من كربلاء القنصلية الإيرانية في المدينة لثلاث ليال من أجل اقتحامها، إلا أنهم لم يتمكّنوا من ذلك بسبب مواجهتهم من قِبل قوات الأمن، مع ذلك تمكنوا من حرق نفايات على أسوارها وتعليق لافتة كُتب فيها "أغلقت بأمر الشعب".
تراكمات قبل الانفجار
خلال السنوات الثلاث الماضية، شهد الجنوب العراقي ما يمكن اعتباره إشارات على قرب انفجار رافض لكل أشكال النفوذ الإيراني في العراق بعد عوامل عديدة دفعت لذلك، منها فتح إيران مياه البزل المالحة على شط العرب، وقبلها قطع روافد المياه وتحويل مسارها، ثم حرق النفايات الإيرانية قرب الحدود والتسبب بمآسٍ في مدن عراقية قريبة في محافظة ميسان، ثم موافقة الحكومة على مشاركة عناصر أمن إيرانيين في تنظيم مراسم كربلاء والنجف الدينية وحصول مشادات وخلافات حادة بينهم وبين عراقيين، وصولاً إلى اتهام طهران بإغراق الجنوب بالمخدرات الرخيصة. وقد يكون الاحتقان الأكبر حصل مع تعرض سيدة عراقية من النجف للضرب على يد ضابط أمن إيراني في مطار مشهد، وهي حادثة قدّمت السلطات الإيرانية اعتذاراً رسمياً عنها، قبل أن يتبعها اعتداء مماثل على عائلة من أهالي البصرة كانت متوجّهة للعلاج في إيران أيضاً. في المقابل، شهدت البصرة حرق القنصلية ثم إنزال العلم الإيراني وحرقه وتخريب يافطة الإمام الخميني التي أطلقت على شارع وسط البصرة، ثم رفض إقامة مزار لمكان وضوء الخميني عام 1979 قبل مغادرته العراق، وهو ما نجح فعلاً بسبب الضغط الشعبي، وصولاً إلى رضوخ حكومة النجف في تغيير اسم شارع النجف الحولي بعدما رُفعت يافطة شارع الإمام الخميني، وكذلك محاصرة القنصلية في كربلاء وحرق الأعلام وصور الزعامات الإيرانية.
هذا التطور اللافت في علاقة العراقيين بإيران هو ما لم يتوقعه القادة في طهران، بحسب العضو المنشق عن "حزب الدعوة" غالب الشابندر. وقال الشابندر، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "إيران تعاني حالياً من أثر صدمة كبيرة، إذ إنها لم تكن تتوقع أن الجيل العراقي الجديد الذي كلّفها مليارات الدولارات من أجل تربيته بحسب معاييرها، سيخرج بانتفاضة ضدها وضد أحزابها، كونها تصوّرت بسبب رسائل أحزاب عراقية إليها أن العراقيين يحبون خامنئي ويريدون أن تصبح بغداد شبيهة بطهران وتحت حكم ولاية الفقيه، عبر مساندة المليشيات المسلحة لها، وتحويل العراق إلى حديقة إيرانية، وهذا الأمر جعلها تضع إمكانيات مالية هائلة وطموحات مستقبلية كثيرة في العراق، ولكن انتهت كل هذه الأفكار مع ولادة جيل عراقي جديد يؤمن بالعراق، ويُدرك تماماً كم استغلت إيران ضعف بلادهم وامتصت خيراته".
ولفت الشابندر إلى أن "العراقيين يرفضون أي شكلٍ من أشكال الوصاية، فكيف إذا كانت الوصاية المفروضة عليهم بالسلاح والقتل والاغتيال، إيرانية؟"، مضيفاً "بات واضحاً للإيرانيين شعباً وحكومة، الرفض العراقي لامتدادهم في غير دولتهم، وهم فُجعوا بصور حرق الخميني وخامنئي وسليماني وشاهدوا الغضب العراقي ومخاطره عليهم بالداخل".
من جهته، أشار الشيخ عبد الكريم الخفاجي، وهو أحد وجهاء وشيوخ قبيلة خفاجة في مدينة ذي قار، إلى أن "الجيل الجديد يملك عقلية مختلفة عن السابق، وهو جيل من الصعب تدريبه على الطاعة، ولا يمكن أن يسمح لجهة أن تسرقه، وهو ثوري، ولاحظنا في التظاهرات الأخيرة كيف كان شجاعاً لا يخاف"، مضيفاً "هذا الجيل يُتابع مجريات الأحداث على الأصعدة الأمنية والسياسية، وليس جاهلاً، وهذا يعني أن الجهات التي تسيطر على الحكم وتسرق حقوق العراقيين هي في دائرة الخطر ومُهددة من جيلٍ جديد لا يقبل ولا يهادن"، موضحاً في اتصالٍ مع "العربي الجديد" أن "أحزاب السلطة في العراق لم توفر وقتاً كافياً وجهداً وأموالاً وفرصاً لهؤلاء الشباب، واستمرت بخدمة من في الخارج".
أما الشيخ محسن عباس الغريفي، أحد أعيان البصرة، فقال لـ"العربي الجديد"، إن "الإعلام بشكل عام متورط بنقل صورة مشوهة عن جنوب العراق وتصويره على أنه صديق أو تابع للنظام الإيراني، وهذا من بين الظلم الذي وقع علينا ككل"، مضيفاً: "اعتقد أنه بمجرد السؤال أو البحث عن موقف الجنوب تجاه النفوذ الإيراني هو إهانة، كون الأمر بديهيا، والتظاهرات كانت فرصة للتعبير عن موقف عملي، أما المواقف الكلامية والدعوات فللأسف لا ينقلها أحد".
غضب على كل الوصايات
وتعليقاً على ما يحصل، رأى رئيس تجمّع "كفى"، السياسي العراقي رحيم الدراجي، أن "الغضب العراقي ليس فقط من الوصاية الإيرانية إنما من الوصاية الأميركية أيضاً والتدخّلات الخارجية جميعها، وقد بان الغضب أكثر وأكثر بعد الضربات الإسرائيلية لمواقع استهدفت فيها جنوداً ومعسكرات تابعة لفصائل الحشد الشعبي، ما أكد أن العراق صار ساحة لتصفية الحسابات الدولية والإقليمية ومنطلقاً لعمليات حربية لا شأن للبلاد فيها". ولفت في تصريح لـ"العربي الجديد" إلى أن "الساسة العراقيين أخطأوا مع شعبهم حين سخّروا العراق وموارده لصالح الأجانب والإيرانيين، وبالتالي فإن الرفض الحالي هو طبيعي ومتوقّع من شعب قارع الأنظمة القمعية ولا يقبل بالذل والجوع"، محذراً من أن "عدم تصحيح السياسة العراقية والانتباه لمصالح العراقيين بالدرجة الأساس، يعني أن الغضب سيقود إلى ثورة تكون أمرّ وأقسى على كل دول المنطقة".
واعتبر الدراجي أن "الأحزاب التي تقاسمت كعكة الحكم في العراق، لم تكن مؤهلة لقيادة بلد غني بموارده وتاريخه، وهم مجموعة من الأشخاص كانوا يعتاشون على فتات الخبز في إيران وسورية وبريطانيا، وبالتالي حين قدموا إلى العراق بعد احتلاله وتدمير بناه التحتية، عملوا على أن يكون البلد جزءاً من خدمة الدول التي كانوا فيها، ولا تشترك في ذلك إيران وحدها، إنما دول الخليج أيضاً التي ساهمت برفع معدل التوتر الطائفي بعد عام 2003، ودعمت جماعات مسلحة من أجل أن يبقى العراق مأزوماً"، مضيفاً "لكن ولادة جيل متطور يُتابع ويُسافر ويرى ما فعلت الأحزاب ببلاده، تسبّبت باحتقان كبير أدى في النهاية إلى تظاهرات لم تراعِ قدسية المرجعيات الدينية ولا الأحزاب ومليشياتها".
في المقابل، اتهم كريم عليوي، عضو مجلس النواب عن تحالف "الفتح" الذي يمثل التجمّع السياسي لفصائل "الحشد الشعبي"، جهات تموّل شباناً من أجل زرع التفرقة بين الشعبين الإيراني والعراقي، مؤكداً في اتصالٍ مع "العربي الجديد"، أن "حرق صور مرجعيات دينية عليا ذات أهمية لشيعة العالم (يقصد خامنئي)، هو فعل مدفوع الثمن، ولا يصب إلا في مصلحة محور ينشر الإرهاب في العالم، وهو محور إسرائيل وأميركا".
مسار طويل من رفض الهيمنة
وفيما يرى مراقبون عراقيون أن التظاهرات الحالية عززت الهوية الوطنية العراقية وفضحت دكاكين الطائفية السياسية، إلا أن رفض الهيمنة الخارجية لا يُعتبر حالة جديدة في الجنوب العراقي. وبالعودة إلى السنوات الثلاث الماضية على الأقل، فقد تخطت مناوشات الشارع الجنوبي مع الإيرانيين العشر مرات، في البصرة والنجف وكربلاء وبابل، وهي نبرة رفض متصاعدة بشكل مستمر مع تزايد النفوذ الإيراني الذي ساهم في توغل المليشيات المسلحة والتي باتت سلطة أعلى من سلطة الشرطة في كثير من المدن، وهو ما قد يفسر عملية حرق 43 مقراً لمليشيات وأحزاب مرتبطة أو قريبة من إيران من قبل المتظاهرين في الجنوب.
قبائل ربيعة وخفاجة وشمر وطي والسواعد والخوالد وبني حمدان والفتلة ولام والظفير والظوالم وكعب والسواكن والقريشي وتميم وكنانة وبني مالك وعبادة وقيس وخزاعة والخزاعل، وعشرات القبائل العربية التي تُعتبر العمود الفقري في الجنوب العراقي ضمن محافظات البصرة والقادسية وذي قار وكربلاء والنجف وبابل وميسان وواسط والمثنى، وما تحتويه من مدن رئيسة ذات كثافة سكانية مرتفعة مثل الناصرية والديوانية وسوق الشيوخ والكوفة والسماوة والكحلاء والكوت وعلي الغربي والحلة وغيرها، ترجمت موقفها من النفوذ الإيراني المتنامي خلال التظاهرات عبر الشعار الذي رفعته كربلاء تحديداً يوم 25 أكتوبر الماضي بيافطة كُتب عليها، "جاري أهلاً بك لكن ما تتحكم بكاعي" (أرضي). لكن هذه الشعارات تخطت التلميح بعد أيام قليلة إلى رفع يافطات وشعارات تهاجم إيران وقيادات إيرانية، كان أكثرها حدة ما رفع في كربلاء والنجف مثل "قاسم سليماني المجرم الدموي"، و"إلى هادي العامري الخادم الصغير لسيده خامنئي وأستاذه في الإجرام قاسم سليماني رسائلك ومقترحاتك من كربلاء مرفوضة رفضاً قاطعاً"، وكذلك "إيران سبب مآسي العراق وتحطيم البنية التحتية".
ولم يكن جنوب العراق هامشياً في القضايا العراقية والعربية المصيرية، فأولى حملات التطوع للتعبئة العراقية لحروب التحرير الفلسطينية كانت من النجف، وقبلها كان الجنوب نواة تحرر العراق من الاحتلال البريطاني عبر ثورة "العشرين" عام 1920، وتشكّلت مقاومة شعبية بقيادة شيوخ ووجهاء عشائر ضد البريطانيين، عقب زيادة الدعوات إلى "الثورة" ضد الإنكليز وسجن الداعي لها "شعلان أبو الجون"، وهو رئيس عشيرة الظوالم، إحدى عشائر مدينة الرميثة جنوب العراق. وبسبب الزج به في السجن انطلقت أولى الرصاصات ضد البريطانيين، وظلّ الجنوب العراقي بعد ذلك معانداً لسياسات التجويع والاحتلال، منتفضاً ضدها في الوقت المناسب أو غير المناسب.
بعد عام 2003، وإسقاط نظام صدام حسين، لم يتحسن وضع الجنوب المعيشي والاقتصادي، وعلى الرغم من أن الجنوب هو الأغنى لجهة توفر النفط، أول مصادر العراق المالية، وكثرة الآبار فيه، لكن مع ذلك تستمر القصص الصادمة حول معدلات الفقر والجوع، والتي تبرز عبر مواقع التواصل بنقل صور سيدات وأطفال وهم يبحثون في النفايات عن شيء يأكلونه أو يبيعونه للاستفادة منه، مع انتشار كبير للمخدرات. وأشارت مصادر اقتصادية عراقية غير حكومية إلى أن أكثر من 30 في المائة من أهالي جنوب العراق يعيشون بأقل من دولارين يومياً، وتحديداً في مدن المثنى والبصرة والسماوة، مع العلم أن غالبية رجال السلطة والأحزاب في العراق من الجنوب، إلا أن انشغالهم بما يلبي طموحاتهم الشخصية ورغبات إيران، أدى إلى إهمالهم لمدنهم خلال 16 سنة الماضية.