دولة "أمناء شرطة" مصر: حكايات بلسان أبطالها

19 فبراير 2017
الداخلية المصرية تضم 100 ألف أمين شرطة(محمد الشاهد/فرانس برس)
+ الخط -
من بيئة ريفية أو منطقة عشوائية ومستوى تعليمي مُتوسط يكفي فقط للقراءة والكتابة، تلك هي مؤهلات معظم أمناء الشرطة المصريين الذين يتزايد نفوذهم في الشارع المصري بصورة كبيرة، بموازاة تزايد الإعلان عن جرائم وتجاوزات يرتكبونها من ابتزاز المواطنين وحتى القتل بدم بارد، ليقتنع معظم المصريين بعبارة (حاتم) أمين الشرطة الفاسد (الذي قام بدوره الفنان الراحل خالد صالح) في فيلم "هي فوضى": مفيش حاتم بيتحاكم".

ارتبطت فئة أمناء الشرطة في مصر بالكثير من اللغط منذ نشأتها على يد وزير الداخلية في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، شعراوي جمعة. كان الغرض المعلن منها هو توفير رجال شرطة متعلمين لموازنة الأمر بين الغالبية التي كانت موجودة وقتها من الأميين والفلاحين الذين شكلوا عصب وزارة الداخلية. لكن الحقيقة أن إنشاء معهد أمناء الشرطة كان خطوة في إطار جهود عبدالناصر لاحتواء الجيش وتشكيل قوة ثانية تستطيع حماية النظام من تقلبات القيادات العسكرية بعدما اصطدم بتغول نفوذ المشير عبدالحكيم عامر، الذي كانت شرطته العسكرية هي صاحبة الأمر والنهي في المسائل الأمنية في ذلك العهد.

تضخمت وزارة الداخلية وتضخم معها عدد أمناء الشرطة حتى بلغ 100 ألف فرد، أي أضعاف عدد الضباط المقيدين بوزارة الداخلية التي تخطى أفرادها العاملين حوالي 400 ألف عنصر، عدا المجندين بقوات الأمن، والأمن المركزي. ويصل العدد الإجمالي إلى أكثر من مليون فرد في وزارة أصبحت تهيمن على كل المصالح الحكومية، وتنتشر مراكزها وأقسامها على كل شبر من مصر.

داخل أحد القطارات المتجه من القاهرة للإسكندرية يجلس أربعة من الأمناء تتراوح أعمارهم بين الثامنة والثلاثين والخامسة والأربعين، يتحدثون حول حركة التنقلات الأخيرة في الداخلية، ولماذا لم يسجلوا أسماءهم في طلبات النقل ليعودوا إلى محافظاتهم بدلاً من التعرض للسفر عدة مرات أسبوعياً تلتهم منهم وقتاً طويلاً يمضونه في المواصلات، ما يؤثر على إجازاتهم. يعدد أحد الأمناء أسماء زملائه في قسم شرطة "الأزبكية" و"الموسكي"، والذين يأتون من أماكن بعيدة للعمل بالقسم. ويشير إلى أن سبب تمسكهم بمناصبهم على الرغم من هذا العناء، ومع أن هناك فرصا متوفرة للانتقال إلى أقسام قريبة من منازلهم، يكمن في ما يسمونه "الميّة" أي الحصول على أموال بطرق غير شرعية.

ووفقاً لشهادات متعددة، بعضها رفع في تقارير رقابية رسمية، "يفرض أمناء الشرطة في معظم أنحاء القاهرة والمحافظات الكبرى إتاوات على أصحاب المحال ومقاولي البناء وأصحاب المقاهي وغيرهم ممن يحتاجون لأماكن من الطريق العام أو ممرات سير الناس في الطرقات من أجل تسويق بضائعهم أو استغلال تلك الأماكن في الربح وتوسيع تجارتهم بصورة غير قانونية". والفئة المختصة بالتعامل مع تلك التجاوزات التجارية هي ما تسمى في مصر بالبلدية أو شرطة المرافق العامة. وقد تضخم نفوذ هؤلاء في كثير من الأماكن حتى صاروا يؤجرون الأرصفة لبعض البلطجية الذين يؤجرونها بدورهم لصغار التجار والباعة المتجولين مقابل الحصول على إتاوات مادية. ويبتزونهم لصالح أمناء الشرطة الذين يوفرون الحماية لكل هذه الأنشطة التي لا يستطيع المواطن مواجهتها.


وتشير تقارير أمنية داخلية، عرضتها هيئات التفتيش على الوزير السابق للداخلية (محمد إبراهيم)، إلى أن "رجال المرور من أمناء الشرطة يحتلون مرتبة متميزة في سلك الابتزاز والاستغلال والربح غير المشروع، لذلك يعد العمل بالشارع وفي التقاطعات الهامة بالطرق سواء داخل العاصمة أو المدن الكبرى بالمحافظات من الأمور المرغوبة بشدة من جانب الأمناء". ويضيف أحد التقارير أنه "في تلك الأماكن يمكن (لأمين الشرطة) تكوين ثروة لا بأس بها في وقت قصير بالمشاركة مع الضابط المشرف على المنطقة المرورية، (مع تقديم) بعض الفتات للجنود الموجودين لمساعدة السيد الأمين"، وفق ما ورد في تقرير.

أحد الأمناء المسافرين يتحدث عن زميل له، ملقب بـ"القشاش" وهو لقب يعود في الأصل لاسم قطار يقف بجميع المحطات وقد يتوقف أحياناً لشخص أشار له أو على معرفة بالسائق في غير المحطات الرسمية. و"القشاش" الذي هو أمين شرطة بقسم "الأزبكية"، يقف أثناء الليل في منطقة الجلاء بالقاهرة ليستوقف بعض المارة ويفتشهم بحجة البحث عن مخدرات ويعاونه اثنان من الجنود العاديين. بعض السيارات المارة، والتي يقودها شباب حديثو السن ويبدو عليهم ملامح الثراء، تتعرض أيضاً للإيقاف من جانب "القشاش". غالباً ما يتم العثور على قطع مخدرات (الحشيش مثلاً) وهنا يسرع "القشاش" إلى توضيح ما سيحدث للمتهم في القسم من ضرب وإهانة وتعذيب وقضية قد تلقي به في السجن لسنوات من حياته وسط المجرمين والبلطجية، ويضيف: "إلا إذا". وهذا الاستثناء الأخير هو أن يفتدي المتهم نفسه وتنتهي قضيته في نفس المكان مقابل ما يحمله من مال وأشياء ثمينة كساعة أو هاتف نقّال أو سلسلة ذهبية وغيرها.

بالطبع، تنتهي كل الحكايات بانتصار "القشاش"، إذ إن الجميع يعلم ما ينتظره في قسم الشرطة وأن أوامر أمين الشرطة هي التي ستنفذ بلا نقاش. لكن أحد أمناء الشرطة يروي أنه في حال لم يعثر "القشاش" والجنود الذين يرافقونه، على مخدرات أو ممنوعات، قد يجدون مع سائق السيارة التي يتم تفتيشها مالاً كثيراً، وفق تعبيره. هكذا يغافله العناصر ويستولون على ما يملك من مال، بحسب تأكيده. وإذا اكتشف الضحية أنهم سرقوه وصرخ أو طالبهم برد المال يواجهه "القشاش" بمنتهى الصرامة بأنه يتهم رجال الأمن بالسرقة وهذه تهمة كبيرة ستقوده لأذى ضخم وانتقام أجهزة وزارة الداخلية منه، على حد قول أحد أمناء الشرطة. وإذا لم يغادر المكان فستكون نهايته في السجن، وربما يقضي بطلقة نارية تحت ذريعة الاعتداء على رجل الشرطة ومحاولة الاستيلاء على سلاحه الميري، والجنود الموجودون في المكان سيكونون شهوداً على ذلك أيضاً، وفق الرواية نفسها.

ويطلق المصريون على ما يفعله هؤلاء عبارة "تثبيت رسمي أو حكومي"، في إشارة لعمليات السطو بالقوة على المارة التي يقوم بها البلطجية في بعض الأماكن المنقطعة، وتسمى بعمليات "تثبيت" المارة والاستيلاء على ممتلكاتهم ونقودهم.

و
تستمر حكايات الأمناء المسافرين وهم يتحدثون عن أحد زملائهم ويدعى "س. أ." ويعمل مع مباحث التموين. هذا الشخص يعود لبيته يومياً محملاً بأكياس من المنتجات الغذائية والمعلبات التي لا يكفي راتبه الشهري لشرائها. كذلك لا يسافر بالقطار مثل زملائه ولكن بسيارات الأجرة بين المحافظات، مع أن كلفتها ضعف أجرة القطار، وليس فيها استثناء لرجال الشرطة، لكنها توصله لمنزله البعيد بوقت أسرع مما تستغرقه رحلة القطار.

هذا الرجل صنع لنفسه قائمة بأسماء المحال التجارية التي يمتلكها أفراد ويعملون بمجال توزيع السلع المدعومة من الدولة على بطاقات التموين الشعبية. يقول باعة التموين إن السلع الحيوية مثل الزيت والسكر غير موجودة لديهم ويضغطون على المواطنين لشراء واستلام سلع بديلة بنفس القيمة. وبالطبع تتم الأمور تحت متابعة أمين الشرطة وأحياناً الضابط الذي يرأسه، وينالون حصة من البضائع التي يتم تسريبها أو مقابلاً لذلك مادياً أو عينياً.

تتوالى الحكايات التي يرويها أمناء الشرطة طوال ساعتين، أي ما يعادل مدة السفر، وسط لامبالاة مقصودة من قبل الركاب الذين يعلمون تماماً أن كل ما يسمعونه هو أقل من الحقيقة. لكن اللافت هو تبرير الأمناء لما يحكونه من وقائع زملائهم التي يصفها البعض منهم بالاسترزاق، فرواتبهم لا تكفيهم والناس ينفقون الكثير على المحامين والقضايا، فلا مانع بالتالي من أن يتقاضى الأمناء بعضاً من هذا المال. هكذا، هم يكسبون من جهة، ويتجنب المتهمون التعرض لـ"القضايا والبهدلة" من جهة أخرى، على حد تعبير أحدهم.