بريكست بلا اتفاق…السيناريو الكارثي الأكثر ترجيحاً

17 يناير 2019
مؤيدو بريكست مشدد لا يعارضون الخروج بلا اتفاق (Getty)
+ الخط -
تلقّت الحكومة البريطانية هزيمة قاسية في برلمان ويستمنستر، مساء أول من أمس الثلاثاء، عندما صوّت أكثر من ثلثي أعضائه ضد صفقة بريكست (الخروج من الاتحاد الأوروبي) التي أبرمتها رئيسة الوزراء تيريزا ماي مع الاتحاد الأوروبي، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، ما يجعل الخيارات المتاحة أمام بريطانيا تضيق.

ومع بقاء نحو سبعين يوماً على موعد خروج بريطانيا رسمياً من الاتحاد الأوروبي، ونظراً لأن الوصول إلى الاتفاق الحالي والذي تم رفضه في البرلمان أول من أمس استهلك قرابة العامين من المفاوضات، فإنه من المشروع التشكيك في القدرة، خلال المهلة القصيرة المتبقية على موعد بريكست، على التوصل إلى اتفاق جديد ينال دعم الأغلبية البرلمانية، من حيث إقناع متشددي بريكست في حزب المحافظين أو إرضاء الأحزاب المعارضة، وعلى رأسها العمال.

وعلى الرغم من معارضة الأغلبية البرلمانية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، إلا أنه يعد الاحتمال الأكبر في حال استمرت الأمور على وضعها الحالي، الأمر الذي تتحسّب له الأوساط البريطانية وكذلك الأوروبية، في ظل مواقف أكدت وجود خيبة من قرار البرلماني وصولاً إلى اعتبار إسقاط الاتفاق بـ"اليوم المرير لأوروبا"، على حد وصف نائب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وزير المالية، أولاف شولتس.

ارتدادات كارثية
أقرّ البرلمان البريطاني، في شهر يونيو/حزيران الماضي، قانون الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، والذي ينص على أن موعد بريكست هو 29 مارس/آذار 2019، عند الساعة الحادية عشرة مساء بتوقيت لندن (منتصف الليل بتوقيت بروكسل). وبذلك، فإنه في حال عدم التوصل إلى اتفاق بحلول ذلك الموعد، ستخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق. ويمكن للحكومة البريطانية أن تطلب تأجيل موعد بريكست لتجنّب هذا الخيار، لكن الأمر يحتاج إلى تصويت برلماني، لأن موعد الخروج مشرّع في القانون البريطاني، كما يحتاج أيضاً إلى موافقة دول الاتحاد السبع والعشرين.

ويعني بريكست من دون اتفاق عملياً خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون أي اتفاق ينظمه، بحيث تصبح بريطانيا فجأة طرفاً ثالثاً، تفقد فيه عضوية المؤسسات الأوروبية على كافة الصعد، وتنتهي بموجبه كافة الميزات التي كسبتها بريطانيا من كونها عضواً في الاتحاد الأوروبي. ويقود هذا الاحتمال إلى أجواء من عدم اليقين بما يمكن أن يحصل، ولذلك فإنه يحظى بمعارضة جميع الأطراف، ما عدا مؤيدي "بريكست مشدد"، الذين يرون فيه فرصة لبداية تجارية جديدة خارج الكتلة الأوروبية، رغم أن مثل هذه الاتفاقيات تحتاج سنوات من التفاوض.

ووفقاً للترتيبات الحالية، تدخل العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي فترة انتقالية تمتد لواحد وعشرين شهراً، وتنتهي مع نهاية عام 2020، وتبقى فيها العلاقة بين الجانبين على حالها قبل بريكست. ويستغل الطرفان الفترة الانتقالية للتفاوض على اتفاق تجاري مستقبلي يحدد أطر العلاقة بينهما، بما فيها طبيعة التبادل التجاري والحدود في الجزيرة الإيرلندية. وفي حال عدم اختتام المفاوضات التجارية في الموعد المفترض، ينص اتفاق بريكست على تمديده أو اللجوء إلى خطة المساندة الإشكالية، لتنظيم العلاقة حتى إبرام الاتفاق التجاري النهائي.

إلا أن بريكست من دون اتفاق يلغي وجود مثل هذه الفترة الانتقالية، وستجد بريطانيا نفسها فجأة في علاقة تجارية مع الجانب الأوروبي تحكمها قواعد منظمة التجارة العالمية. ويرى مؤيدو "بريكست مشدد" في ذلك حرية تامة لبريطانيا بالابتعاد عن أوروبا والسعي وراء اتفاقيات تجارية ثنائية مع اقتصادات أخرى مثل الولايات المتحدة والصين والهند ودول الكومنويلث الأخرى. إلا أن هذا الخيار يعني عملياً أن تخضع البضائع البريطانية الصادرة إلى الاتحاد الأوروبي لذات الفحوص والرسوم الجمركية التي تخضع لها بضائع أية دولة أجنبية من خارج الاتحاد، وهو ما ينطبق أيضاً على الواردات الأوروبية إلى بريطانيا.

وتعني نهاية التجارة السلسة بين الجانبين، عملياً، ارتفاعاً في الأسعار ونقصاً في المواد في الأسواق، إضافة إلى طوابير طويلة على النقاط الحدودية في انتظار إنهاء عملية التخليص الجمركي. وكانت وزارة بريكست البريطانية قد أجرت بحثاً كشف عن احتمال نفاد الأغذية والأدوية في عدد من المناطق البريطانية في غضون أيام من وقوع بريكست من دون اتفاق، وذلك بالرغم من إعلان الحكومة عن تخزينها للمواد الغذائية والدوائية تحسباً لمثل هذا الاحتمال.

كما سينعكس هذا الوضع سلباً على الشركات البريطانية التي تعتمد التجارة مع الاتحاد الأوروبي بشكل رئيسي. فطوابير الانتظار الطويلة ستؤخر من حركة البضائع بين الجانبين، وهو ما ينعكس سلباً على صناعات تلتزم دقة الجدول الزمني. صناعة السيارات البريطانية، على سبيل المثال، تعتمد على استيراد عدد من القطع المصنعة في عدد من الدول الأوروبية، والتي تسهل حركتها عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. وفي حال بريكست من دون اتفاق، فإن هذه القطع ستعْلَق في طوابير طويلة على الحدود بانتظار التخليص الجمركي، والذي سيرفع من تكلفة استيرادها أيضاً. وقد يدفع هذا الوضع مصنعي السيارات إلى نقل مصانعهم إلى خارج بريطانيا.




كما قد يهدد بريكست من دون اتفاق الوضع في إيرلندا الشمالية. فاتفاق الجمعة العظيمة الذي جلب نهاية الأهلية يعتمد استمراره على غياب الحدود في الجزيرة الإيرلندية. الوضع الحالي يسمح لمواطني إيرلندا الشمالية بالتنقل بين بريطانيا والجمهورية الإيرلندية من دون أية إشكالية، ويسمح غياب الحدود البرية في حرية تنقّل البضائع بين الدولتين. وسيؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد من دون اتفاق إلى نصب الحدود بين بلفاست ودبلن من جديد، وهو ما سيعيق حركة البضائع والأفراد بين شطري الجزيرة، بينما قد تعاني إيرلندا الشمالية من انقطاع الكهرباء الآتية من الجانب الآخر من الحدود. كما تمتلك إعادة الحدود تأثيراً سلبياً مذكراً بأيام الحرب الأهلية، حيث كانت نقاط التفتيش الحدودية أهم النقاط المستهدفة من قبل أطراف النزاع.

ولسيناريو عدم الاتفاق أيضاً تأثير سلبي محتمل على المواطنين البريطانيين المقيمين في الاتحاد الأوروبي، والبالغ عددهم نحو 1.3 مليون شخص، والمواطنين الأوروبيين المقيمين في بريطانيا وعددهم نحو 3 ملايين شخص. سيجد هؤلاء أنفسهم بين ليلة وضحاها من دون أية قوانين تنظم وجودهم في أماكن إقامتهم، وهو ما سيعرّض حقوقهم للخطر. ولن تقوم بريطانيا أو الاتحاد الأوروبي بترحيل مواطني الطرف الآخر، إلا أنهم سيكونون في وضع غير منظم قانونياً.

على سبيل المثال، سيفقد المواطنون الأوروبيون في بريطانيا حق الرعاية الصحية المجانية الحالي، وهو ما ينطبق أيضاً على البريطانيين في أوروبا.

أما في ما يتعلق بحرية التنقل بين الجانبين، فسيفقد البريطانيون العديد من الميزات السابقة. سيحتاج البريطاني إلى تأشيرة دخول إلى الاتحاد، كما سيضطر إلى استخراج رخصة السواقة الدولية ليستطيع القيادة في أوروبا. كما سترتفع رسوم استخدام الجوال، والتحويلات البنكية، والباقات السياحية، وتذاكر الطائرات والقطارات. بل ويحتمل أن تتعرقل حركة المواصلات بين الجانبين، نظراً لطوابير السيارات الطويلة على الحدود، أو ببساطة لانتهاء صلاحيات الاتفاقيات التي تسمح بحركة القطارات والطائرات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي.

كما قد يؤدي الخروج من دون اتفاق إلى انتشار الفوضى والاحتجاجات في بريطانيا، في غضون أسبوعين من وقوعه، لأسباب مثل احتمال انقطاع الأدوية والأغذية أو بسبب ارتفاع الأسعار. وسبق أن حذّر موقع أمازون التجاري من احتمال الفوضى، نظراً لإمكانية انهيار العديد من الأعمال الصغيرة التي تعتمد على حرية حركة البضائع مع أوروبا. ونظراً لهذه الاحتمالات، أعلنت الحكومة البريطانية عن استعدادها لنشر أكثر من 3 آلاف جندي بريطاني في حال عدم الاتفاق، حيث سيتم توظيفهم في التعامل مع حالات الطوارئ التي قد تنجم عنه. من جهتها، تستعد الشرطة البريطانية لرفع جاهزيتها لضمان استتباب الأمن.

كما حذّر بنك إنكلترا من انهيار أسعار المنازل في بريطانيا، حيث قد تفقد ثلث قيمتها، وهو ما سيضع أصحاب العقارات في موقف حرج، خاصة في ما يتعلق بأقساط عقاراتهم. أما قانونياً، فسيؤدي الخروج من المنظومة القانونية الأوروبية فجأة إلى وجود العديد من الثغرات القانونية التي سيتوجب على المشرّع البريطاني ملؤها. وبينما ستخرج بريطانيا من تحت مظلة محكمة العدل الأوروبية، ستبقى عضواً في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والتي لا تعد جسماً خاصاً بالاتحاد الأوروبي. كما لن تلتزم بريطانيا بإتمام تعهداتها في الميزانية الأوروبية، والتي تصل إلى 13 مليار جنيه سنوياً، إلا أنها ستفقد أيضاً عدداً من برامج التمويل الأوروبية، ومنها 3 مليارات جنيه لصالح الزراعة البريطانية.

وبناء على كل ذلك، يحظى سيناريو عدم الاتفاق برفض واسع بين البريطانيين وممثليهم في البرلمان. فبينما تبذل الحكومة البريطانية جهودها للتحضير للسيناريو الأسوأ، حيث خصصت مليارات الجنيهات للتخفيف من وطأته، تسعى أغلبية برلمانية جاهدة لإزالة سيناريو عدم الاتفاق من على طاولة الخيارات المتاحة، من خلال تمرير تشريعات تمنع الحكومة من اللجوء إليه.

دعوة إلى تغيير الخطوط الحمر
أما الاتحاد الأوروبي فيحاول أن لا يبدو المسؤول عن مآلات الوضع، مبدياً استعداده لقبول اتفاق خروج مختلف، لكن ذلك مرهون بتغيير مطالب لندن الرئيسية.
ودافع كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي، ميشيل بارنييه، في كلمة ألقاها أمام البرلمان الأوروبي أمس الأربعاء، عن الاتفاق المبرم مع ماي، فيما حذّر من أن مخاطر خروج غير منظم من التكتل أصبحت أكبر منها في أي وقت مضى.

وبحسب بارنييه، فإن المفوضية الأوروبية ستكثف استعداداتها لخروج غير منظم قد يؤدي إلى اختلالات في أوروبا بأسرها. وأشار بارنييه إلى أن أحد السبل للمضي قدماً هو أن تقبل بريطانيا بالتزام أكبر بقواعد الاتحاد الأوروبي لضمان الحصول على علاقات تجارية وثيقة للغاية في المستقبل. ووفقاً لبارنييه، فإنه "إذا اختارت بريطانيا السماح بتغيير خطوطها الحمراء في المستقبل، وإذا فعلت ذلك لتحقيق طموح تجاوز اتفاق بسيط وإن لم يكن هيناً للتجارة الحرة، فإن الاتحاد الأوروبي سيكون مستعدا على الفور... للرد إيجابياً". 
ويقول مسؤولون من الاتحاد الأوروبي إن بريطانيا يمكنها، على سبيل المثال، التخلي عن تصميمها على مغادرة الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة المنظمة مركزياً.
وبحسب وكالة رويترز، تكرر الاقتراح "بعلاقات أوثق" على لسان منسق خروج بريطانيا في البرلمان الأوروبي، جاي فيرهوفستاد. لكن بالنسبة إلى كثر من الساسة الأوروبيين، فإن كل ذلك يتطلب تجاوز البريطانيين انقساماتهم وإدراك ضرورة تمرير صفقة بريكست منظمة، وإلا فإن أي اتفاق معدل قد يتم التوصل إليه سيلقى مصير الاتفاق الأخير.