هكذا يُرحّل الاحتلال المقدسيين ويدفعهم للهجرة

25 سبتمبر 2016
خصص الاحتلال 1.4 مليار دولار للمستوطنات (حازم بدر/فرانس برس)
+ الخط -
في عقبة الخالدية في البلدة القديمة من القدس المحتلة، وعند ملتقى الحارة المقدسية بطريق الهكاري، تنتصب بناية ضخمة استولى مستوطنون على جزء منها، بات مقراً يقيم فيه عراب الاستيطان اليهودي بالبلدة القديمة من القدس، الذراع التنفيذية لعدد من الأثرياء اليهود المقيمين في الولايات المتحدة وكندا، وعدد من البلدان الأوروبية: ماتي دان.

تمكن دان عبر جمعيته "عطيرات كوهانيم"، من اختراق مجتمع مقدسي يعاني مواطنوه من أوضاع اقتصادية صعبة، وكثر منهم يخوضون صراعاً منذ عقود مع جمعيات استيطانية تنازعهم حقوق الملكية على عقاراتهم، بادعاء أنها كانت مملوكة ليهود قبل عام 1948.

قاد دان محاولات عدة للسيطرة على عقارات المقدسيين، تارة بالترغيب وتارة بالترهيب، ومرات كثيرة بمحاولات الابتزاز والإيقاع بقاطني تلك العقارات، من المقدسيين المتورطين في ديون، ليبدأ بعد ذلك بمساومات معهم: "شطب الديون جميعاً مقابل التخلي عن العقارات والتنازل عن القضايا المرفوعة في المحاكم".

كما يضع عرّاب الاستيطان مغريات عدة، تبدأ من السفر إلى الخارج وتسهيل الهجرة إلى الولايات المتحدة أو كندا، لبدء حياة أخرى هناك غير حياة البؤس والشقاء والفقر التي يعيشونها في القدس، وفي الحارات العتيقة التي تعاني الإهمال من قبل بلدية الاحتلال في المدينة.

وسبق أن تلقّت حملة دان ضربة قوية، بانتفاضة الأقصى الثانية التي اندلعت مطلع عام 2000 التي أبطأت إلى حدّ كبير مسيرة التوسع الاستيطاني في البلدة القديمة من القدس، تحديداً في المنطقة المحيطة بالمسجد الأقصى، لكنها عادت لتنطلق بقوة وبوتيرة عالية ومن دون توقف في ذروة المفاوضات، التي يقول كثير من المقدسيين بأنها جلبت عليهم كوارث الاستيطان والتهويد والأسرلة لمدينتهم.

مع العلم أن مسيرة التوسع الاستيطاني هذه، انطلقت قبل الانتفاضة الأولى في عام 1987، كما قال الخبير المستوطن في شؤون العقارات والاستيطان في البلدة القديمة، هايل صندوقة لـ"العربي الجديد"، الذي لا يبعد منزله عن مقر إقامة دان سوى بضعة أمتار، وبات يفصلهما عقارات أخرى في ذات الحي المعروف بحي القرمي، استولى عليها المستوطنون قبل أكثر من عام.



أضاف صندوقة أن "مقتل طالب المعهد الديني في عقبة الخالدية إلياهو عميدي، شكّل نقطة الانطلاق الرئيسية لنشاط الجمعيات الاستيطانية في البلدة القديمة، وأشهرها عطيرات كوهانيم، وعطيرات ليوشناه، وألعاد. وتمكنت هذه الجمعيات من السيطرة منذ ذلك الحين وحتى الآن على أكثر من 80 عقاراً في البلدة القديمة، وخصوصاً في محيط الأقصى، مستخدمة أساليب الترغيب والإغراء المالي ومساعدة بعض ضعيفي النفوس على الهجرة والرحيل إلى خارج الوطن".

وتابع "بينما تورط آخرون في بيع عقارات كانوا يقيمون فيها، واشتروا بدلاً منها منازل في أحياء القدس الشمالية، اختار البعض الآخر العيش في مدن داخل دولة الاحتلال بعيداً عن أنظار المواطنين، في حين اختار آخرون الهجرة والرحيل خارج الوطن بعد أن استوفوا شروط البيع والتسريب للجمعيات الاستيطانية، وفقدوا حق إقامتهم في القدس".

وكشف صندوقة أن "حركة كاخ الفاشية برئاسة الحاخام المتطرف مائير كاهانا قد نشطت في العمل على دفع المقدسيين إلى الهجرة والرحيل، ونظّمت في عقدي الثمانينيات والتسعينيات حملة على هذا الصعيد وُجّهت للمقدسيين، لكنها لم تلقَ التفاتاً واهتماماً".

وأشار صندوقة إلى أنه "كانت هناك نماذج رائعة من صمود المقدسيين في مواجهة الإغراءات التي عرضت عليهم للهجرة والتفريط بالعقارات، لعل أبرز هذه النماذج المواطن وليد الزربا من سكان حي الواد بالبلدة القديمة الذي لا زال يخوض منذ أكثر من ثلاثة عقود صراعاً قضائياً أثقل كاهله مادياً، وتراكمت عليه الديون للضريبة والبلدية والتأمين لكنه ظلّ صامداً".

وأردف "كما أن هناك نموذجين آخرين تفخر بهما البلدة القديمة، وهما الحاجة رفيقة السلايمة التي عاشت وماتت ولم تفرط بمسكنها المتواضع، على الرغم مما مورس ضدها من عنف من المستوطنين، وما عُرض عليها من مبالغ مالية خيالية لتترك المنزل. لكنها لم تفرط ولم تبع. وحين ماتت تمكنوا من الاستيلاء على العقار، وعلى عقار آخر لعائلة الزرو".

في متجره الصغير في شارع الواد، يصرّ المواطن الزربا على الصمود والبقاء، معلناً لـ"العربي الجديد" أنه "لن يتنازل ولن يفرط في أكثر العقارات قرباً من المسجد الأقصى"، وخصوصاً أنه نجح على مدى سنوات خلت، في تحرير أجزاء مهمة منه، باستعادته 12 غرفة من أصل 18 كانوا يخططون للاستيلاء عليها.

في مقابل هذا الصمود المقدسي، لم تتوقف جمعيات الاستيطان عن محاولاتها لاستلاب مزيد من العقارات، مع ضخّ أثرياء اليهود في الولايات المتحدة أكثر من مائة مليون دولار سنوياً على هذه الجمعيات، وجزء هام منه يتم توجيهه نحو السيطرة على العقارات.

وبالإضافة إلى ماتي دان، ظهر ناشط آخر، وهو عضو في بلدية الاحتلال يدعى أرييه كينغ، ليقود حملة تأخذ طابعاً من النشاط المحموم لدفع المقدسيين للرحيل والهجرة بممارسة الضغوط الاقتصادية عليهم وإرهاقهم بالديون، في وقت ترتفع فيه معدلات الفقر والبطالة لدى المقدسيين لتصل إلى نحو 80 في المائة في صفوف السكان، وسط ركود تجاري حاد ومعاناة كبيرة بفعل الضرائب الباهظة التي تفرض عليهم.

وتعتبر المحاكم الإسرائيلية وجهاً آخر ووسيلة ناجعة تلجأ إليها الجمعيات الاستيطانية لدفع المقدسيين إلى التخلي عن عقاراتهم، إن هي فشلت فيما تقدمه من إغراءات وعروض بتمويل هجرتهم للخارج كما كشف القيادي في حركة فتح، حاتم عبد القادر لـ"العربي الجديد"، الذي يتابع عن كثب نشاط هذه الجمعيات وما ترصده من أموال لتحقيق هدفها المعلن بترحيل المقدسيين وطردهم، ليس داخل الأراضي الفلسطينية فحسب، بل نفيهم إلى الخارج.

وذكر عبد القادر أن "ما ترصده الحكومة الإسرائيلية من ميزانيات لتعزيز نشاط الجمعيات الاستيطانية، أكثر من 1.4 مليار دولار. وهو ما مكن كينغ ودان ورؤساء جمعيات استيطانية أخرى من توسيع رقعة سيطرتها على مزيد من العقارات في سلوان والشيخ جراح وراس العمود بالقدس، وانتقالهم مجدداً إلى بؤرة النشاط الاستيطاني الاستلابي لعقارات البلدة القديمة، ودفع المواطنين المقدسيين للهجرة هرباً من تردي أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية، وتحت وطأة الضغط الأمني من إعدامات واعتقالات وتدنيس للمقدسات".