فباريس تريد أن تستمع مباشرة للرئيس التونسي الذي لا يزال بالنسبة لقادتها يشكّل لغزاً، إلى جانب أن ماكرون حريص على تقديم مساعدات ملموسة إلى تونس بهدف إظهار الصداقة والدعم. كما أنه يرغب في إشعار الطرف التونسي بشيء من "القلق" بعد أن كاد البرلمان التونسي يصدر لائحة "غير ودّية" تجاه فرنسا.
لا يختلف اثنان حول أن فرنسا تمثل الشريك التجاري الأساسي لتونس. ولم يستخف أحد من السياسيين التونسيين بهذه المسألة منذ الاستقلال إلى فترة قريبة. ليس ذلك حباً في باريس، وإنما خدمة لمصلحة تونس. لكن منذ الثورة توسعت دائرة الذين يطالبون بمراجعة العلاقات الثنائية بين البلدين. فالتونسيون لم ينسوا استمرار الدعم الفرنسي إلى آخر لحظة للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وكانت وزارة الدفاع الفرنسية تستعد لإرسال كمية ضخمة من وسائل قمع المتظاهرين في الشوارع التونسية.
عندما فازت حركة "النهضة" في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وأعلنت أنها ستقود الحكومة، وجّه لها وزير الخارجية الفرنسي آنذاك تحذيراً بلهجة لم تكن ودية. فباريس لم تكن مستعدة للتخلي عن تونس ذات الموقع الاستراتيجي والحاضنة الثقافية المتميزة، ولم تكن مهيأة ثقافياً وسياسياً للتعامل مع سيناريو وصول الإسلاميين إلى الحكم، على الرغم من كونها قد وفرت اللجوء السياسي لعدد كبير منهم خلال مرحلة التسعينيات.
هناك ملفّان دفعا فرنسا إلى تكثيف اهتمامها بتونس، وأن تجعلها ضمن أولوياتها. الأول أنه على الرغم من أن تفاعل وسائل الإعلام الفرنسية كان محدوداً مع لائحة مطالبة فرنسا بالاعتذار عن استعمارها لتونس، لكن لا يعني ذلك أن المسألة لم تُحدث رجّة نفسية في أوساط الطبقة السياسية هناك. إذ فوجئ ماكرون بوجود 94 نائباً في البرلمان التونسي يطالبون بلاده بدفع تعويضات مالية تقدر بخمسة مليارات يورو مقابل جرائم ارتكبتها خلال حقبتها الاستعمارية. هذا الأمر لم يكن مطروحاً خلال السبعين سنة الماضية. حصل ذلك في مرحلة تشهد موجة مناهضة لفرنسا في معظم الدول الأفريقية التي كانت ولا تزال تحت الهيمنة الفرنسية. ولم تكن تونس بمنأى عن هذه الموجة.
كانت باريس متوجسة من احتمال التصويت على اللائحة، لهذا بذل السفير الفرنسي في تونس قصارى جهده لمنع حدوث أزمة دبلوماسية بين البلدين. من بين أهم الشخصيات التي حرص على مقابلتها للإعراب عن خطورة المسألة، راشد الغنوشي، رئيس البرلمان وخاصة بصفته رئيس حركة "النهضة"، الذي لم يتردد في دعوة السفير إلى العشاء في بيته. وكان ذلك الرهان الفرنسي صائبا، لأن حركة "النهضة" هي التي أسقطت اللائحة وأبعدت بذلك العلاقات التونسية الفرنسية عن أزمة ستكون لها تداعيات مؤلمة على تونس.
هكذا أثبت الغنوشي أن الحركة الإسلامية ليست عدوة لباريس خلافاً للاعتقاد السائد، وأنها على الرغم من صراعها السابق ضد الحبيب بورقيبة إلا أنها أصبحت حريصة عندما شاركت في الحكم على دعم العلاقات بين البلدين. وهو ما جعل الصحافي الفرنسي ميشال توب يعتبر أنه "لولا وزن الغنوشي المحدد، لتمت المصادقة على هذه اللائحة المعادية لفرنسا بأغلبية برلمانية، مما كان سيؤدي إلى أزمة دبلوماسية غير مسبوقة بين البلدين، لكن، خلافاً لرغباتهم الطبيعية، أحجم النواب الإسلاميون عن دعم هذه اللائحة المناهضة لفرنسا". ويمكن القول إن الجهود التي بذلت سابقا لإقناع الفرنسيين بأن حركة "النهضة" معادية لهم، وأنها تعمل على تحطيم الجسور التي تربط باريس بتونس، قد فشلت، وهي الآن تستبدل بعلاقات جديدة من شأنها أن تفتح المجال أمام تعاون فعلي بين الطرفين.
أما الملف الثاني، فيتعلق بالحدث الذي توليه باريس أهمية قصوى في علاقاتها بتونس، وهي التطورات العسكرية والسياسية الجارية على الأراضي الليبية. فدخول أنقرة بقوة إلى جانب حكومة الوفاق الليبية، ونجاحها في قلب الموازين، مما وضع معسكر اللواء المتقاعد خليفة حفتر في موقع الدفاع، أربك كل الحسابات، بما فيها الفرنسية. فباريس التي كان لها دور محوري وفاعل في الإطاحة بالعقيد الليبي معمر القذافي والإجهاز على نظامه، لا تريد أن "تخرج من المولد بلا حمّص" كما يقول المصريون. لهذا أصدرت باريس بياناً حاد اللهجة ضد سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأشعرته بأنها لن تسكت إذا ما ذهب بعيداً في تدخّله العسكري المباشر. ونظرا لأهمية ذلك بالنسبة لرسم معالم المستقبل، يريد ماكرون تحميل تونس رسالة موجّهة إلى الطرف التركي، وذلك بناء على العلاقات الجيدة التي تربط جزءا من القوى المشاركة في الحكم (النهضة) بحزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا.