الحوار الفرنسي الكبير: ماكرون يحاول إنقاذ رئاسته بـ75 يوماً

15 يناير 2019
يستمرّ الحوار بين اليوم الثلاثاء ومنتصف مارس المقبل(آلان بيتون/Getty)
+ الخط -

يبدأ، اليوم الثلاثاء، الحوار الكبير الذي يريده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لحظةً تاريخية لمصالحة الفرنسيين، وردم الهوة العميقة التي تفصل بين الشعب ونُخَبه السياسية، وأيضاً، وضع حدّ لاحتجاجات السترات الصفراء الطويلة وغير المسبوقة، والتي لا تزال تحظى بدعم غالبية الفرنسيين. حوار سيستمرّ من منتصف يناير/كانون الثاني الحالي وحتى منتصف شهر مارس/آذار المقبل. ورسم الرئيس نفسه ملامحه الكبرى والمواضيع التي سيتطرق إليها، في رسالته إلى الفرنسيين، والتي تناقلتها كل وسائل الإعلام، بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي، المتمثلة في المسألة الضريبية والإنفاق العمومي، وتنظيم الدولة والمصالح العمومية والانتقال الإيكولوجي، وأخيراً الديمقراطية والمواطَنَة، مع رغبة كثيرين في إضافة موضوع "الهجرة والهوية الوطنية". وهو ما يمكن أن يعود للنقاش بسبب تأكيد الرئيس أن لا شيء محرّمة مناقشته وأنه "لا توجد، بالنسبة إليّ، قضايا محرمة"، ما دام أن أمل ماكرون، هو "التطرق لأي موضوع ملموس يمكن أن يُحسّن وجود الفرنسيين اليومي"، عدا عقوبة الإعدام والزواج المثلي، والإجهاض.

ولا يخلو الحوار الوطني، الذي يريده الرئيس "حرّاً" من عقبات، لعل أهمها اصطدام مطالب الفرنسيين أو بعضهم بمشروع الرئيس الانتخابي ووعوده وتوجهاته الكبرى. وهنا يريد الرئيس أن يبقى وفيّاً لها، ومن أهم هذه العقبات، بعض جوانب القضية الضريبية، وعلى رأسها قضية "ضريبة التضامن على الدخل"، التي تطالب "السترات الصفراء" بإعادة فرضها على الأثرياء، بدعم من أغلبية الفرنسيين، وأحزاب اليسار كلها.
وهو ما دفع الحزب الاشتراكي، منذ أسابيع، إلى جمع التواقيع من النواب والمواطنين، لتنظيم استفتاء وطني بخصوصها. هذه المسألة يرفض الرئيس مناقشتها، لأن إعفاء الأثرياء من دفع هذه الضريبة "إجراءٌ يشجع على الاستثمار" برأيه، وإن كان لا يغلق الباب أمام البرلمان في خصوص طرح فكرة الاستفتاء. مع العلم أن الحكومة تسيطر على مجلس النواب، في حين أن مجلس الشيوخ، الذي يتحكم فيه اليمين، لا يختلف موقفه عن الحكومة في رفض إثقال الأثرياء بالضرائب.

ولن يتردد ماكرون في طرح بعض الأسئلة في الحوار الكبير، تحديداً 32 سؤالاً، التي يمكن أن يطرحها الفرنسيون، من قبيل: "كيف يمكن جعل الضريبة في فرنسا أكثر إنصافاً وأكثر فعالية؟"، أو "ما هي الضريبة التي يريد الفرنسيون خفضها أولاً؟"، أو تلك الأسئلة التي لا يمكن سوى أن تثير غضب المتظاهرين الحريصين على المصالح العامة وعلى حضور الدولة، بعد أن رأى الكثيرون إغلاق كثير من المرافق الحكومية، كالبريد والمحاكم وغيرها، من نوع: "هل يمكن التخلص من بعض المصالح العامة المتجاوزة أو المكلفة، قياساً بفائدتها؟".

ثم عاد ماكرون ليناقش مسألة الديمقراطية، فتساءل إن كان يتوجب جعل التصويت إلزاميّاً، بعد أن تحدث قبل أسابيع عن إمكانية الاعتراف بالتصويت الأبيض. ومثلما يفعل في كل تصريحاته بتجنب ذكر "السترات الصفراء"، لم يمنع نفسه من التساؤل حول الاستفتاءات، التي تعتبر من مطالب الحراك الرئيسية، فقال: "هل تجب زيادة اللجوء إلى الاستفتاءات؟ ولمن تعود المبادرة في ذلك؟".



وتركت الرسالة التي وجهها ماكرون إلى الفرنسيين كثيراً من الزوايا المظلمة، وعلى الرغم من تشديده على أن "المقترحات ستتيح تشييد عَقد جديد من أجل الأمّة، وتنظيم عمل الحكومة والبرلمان، وأيضاً مواقف فرنسا على الصعيدَين الأوروبي والدولي"، إلا أن الرئيس لا يتحدث عن أي التزام بأخذها في الاعتبار، وإن كان يتعهد بكشفها أمام الشعب بعد شهر من انتهاء الحوار الوطني، أي ما بين 15 مارس/آذار و15 إبريل/نيسان المقبل.

كما أن ماكرون، الذي يطالب بوقف الحراك الاجتماعي، الذي انطلق قبل شهرين، معتبراً أن "الحوار الوطني وسيلة للخروج من الأزمة"، لا يقول شيئاً عن مدى التزام الحكومة بنتائجه، ولا كيف سيكون هذا الحوار مستقلاً، حقيقةً، ولا من سيقوم بقراءة وتحليل الشكاوى. ولا إن كان سيتم اللجوء إلى استفتاء شعبي للتصديق عليها.

وقبل الحوار، انسحبت شانتال جوانو من مهمة توجيهه بسبب راتبها الضخم، الذي أثار الجدل. وعوّضها رئيس الحكومة إدوار فيليب بوزيرين، هما إيمانويل فارغون وسيباستيان ليكورنو "انطلاقاً من تحمّل الحكومة المسؤوليةَ السياسية لهذا الحوار" بحسب قوله. وقد يضيف إليهما خبيرين في الحوار الاجتماعي، كنيكول نوتا، الزعيمة السابقة لنقابة "سي إف دي تي"، وجان بول بايي، الرئيس الأسبق لمجموعة البريد. ولا يزال الغموض يحيط بطريقة عمل الحوار ومن يحقّ له المشاركة فيه، وإن كان رؤساء البلدية، الذين يغدق عليهم ماكرون المدائح، باعتبارهم يمارسون ديمقراطية مباشرة، بعد أن انتقدهم في بداية ولايته الرئاسية، يتحملون مسؤولية كبرى في نقل تظلمات وشكاوى المواطنين.

نظرياً، يستطيع كل فرنسي المشاركة في هذا الحوار الوطني الكبير، فدفاتر تظلمات كثيرة رفعها رؤساء البلديات إلى ممثلي وزارة الداخلية في مختلف المناطق، بين منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، وأمس الإثنين، لمناقشتها في الحوار. وقد نشر قياديون يمينيون، منهم هيرفي موران وفرانسوا باروان ودومينيك بوسيرو، بياناً أمس في صحيفة "لوفيغارو"، دعوا فيه إلى "تحرير الحوار"، وقدموا اعتراضهم على وضع مسؤولية التنظيم على كاهل رؤساء البلديات، لأن "الحركة الاحتجاجية الحالية تستهدف، بوضوح، الدولة، والقضايا المطروحة هي من اختصاص الدولة. ويمكن لرؤساء البلديات تسهيل تنظيم الحوار والمشاركة في النقاشات من أجل تقديم مساهماتهم".



واعتبر البيان أنه "سيكون من الوهم تحديد الأسئلة، وعلى الحكومة أن تشرح كيف ستأخذ في الاعتبار ما تم اقتراحه. وسيكون مناقضاً، من جهتها، أن تفتح حواراً مع التأكيد أنها لن تغيّر من اتجاهه". ثم اقترح هؤلاء "تنظيم مؤتمر اجتماعي ومناطقي مكلف بتنفيذ الاقتراحات التي سيتمخض عنها الحوار".

على المستوى الرسمي، ستطلق الحكومة موقعاً إلكترونياً، اليوم الثلاثاء، مع رقم هاتف وطني، وسيكون المجال مفتوحاً، وفق تأكيد الحكومة، للمواطنين والجمعيات والجماعات والنقابات وغيرها، الذين يرغبون في تنظيم اجتماعات محلية، أن يطلبوا من اللجنة الوطنية للحوار الوطني التسجيل وأجهزة مرافقة الاجتماعات، التي يجب أن تكون اللجنة الوطنية على علم مسبق بمقرها وتاريخها وعدد المشاركين فيها.

ليس سراً أن الحكومة ستسخّر له إمكانيات كبيرة، وهو ما يعني أن التحالف الحكومي، أي "الجمهورية إلى الأمام" وحزب الـ"موديم"، سيكون مستنفراً، إضافة إلى اليمين التقليدي، الذي يوافق في كثير من النقاط على مواقف الحكومة، سواء الضريبية أو الأمنية. كما أن الأحزاب الأخرى ستحاول ما أمكن المشاركة في الحوار لفرض مواضيعها المفضلة، كالهجرة والهوية الوطنية. أما بالنسبة لأحزاب اليمين المتطرف، فإنها لا تثق في أخذ ماكرون في الاعتبار ما سيقوله الفرنسيون. كما يسخر القيادي نيكولا باي، في "التجمع الوطني" (حزب مارين لوبان)، من اقتراح ماكرون المحاصصة في استقبال المهاجرين، في وقتٍ تريد أغلبية الفرنسيين عدم استقبال أحد، أو الانتقال إلى الجمهورية السادسة وتنظيم استفتاء المبادرة المواطنة. كما هو موقف "فرنسا غير الخاضعة" اليساري الراديكالي، على الرغم من أن "الأفكار المختارة تغلق أي نقاش في وجه المرتبات ومعاشات التقاعد وشروط العمل، إضافة إلى ضريبة التضامن على الدخل"، حسبما يؤكد القيادي ألكسي كوربيير. ولم يكن مستغرباً أن يوجه الأمين العام للحزب الاشتراكي أوليفييه فوري، دعوة لأعضاء حزبه للمشاركة فيه والدفاع عن المنجزات الاجتماعية، خصوصاً أن الحزب يوظف قدراته لفرض استفتاء شعبي حول إعادة فرض ضريبة التضامن على الدخل على الأثرياء.

أما موقف حركة "السترات الصفراء"، فتصعب معرفته بشكل دقيق، بسبب اختلاف توجهات أفرادها وعدم انخراطهم في إطار منظم، علماً أن هذا الحوار الوطني الكبير، الذي استطاع الأمين العام لنقابة "سي إف دي تي" لوران بيرجيه، كبرى نقابات فرنسا العمالية، أن يُقنع ماكرون به، لم يكن من مطالبها، وإن كانت مجموعات كثيرة منها على "فيسبوك"، تطالب بالمشاركة لفرض مطلبها الرئيس في إدراج "استفتاء المبادرة المواطنة" في الدستور، وأيضاً فرض تخفيضات جوهرية في الضرائب، خصوصاً تلك التي تمسّ المواد الضرورية للمواطنين.

أمّا عن موقف الفرنسيين، فقد عبّر 52 في المائة منهم، في آخر استطلاع للرأي، عن عدم رغبتهم في المشاركة في الحوار الوطني، في حين أن 67 في المائة من الفرنسيين يعتقدون أن الحوار لن يَحُلّ أزمة "السترات الصفراء". وأعرب 54 في المائة من أنصار مارين لوبان عن عدم رغبتهم في المشاركة في الحوار، كما لن يشارك فيه 51 في المائة من أنصار حزب "الجمهوريين"، بينما المشاركة بين أوساط اليسار أكبر، فـ59 في المائة من ناخبي الحزب الاشتراكي سيشاركون فيه، و52 في المائة من أنصار "فرنسا غير الخاضعة" أيضاً.



المساهمون