خلّفت تعليمات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لوزارة الدفاع بسحب الآلاف من الجنود الأميركيين في ألمانيا مع بداية سبتمبر/ أيلول المقبل قراءات ألمانية متفاوتة للقرار ربطتها أغلبها بحسابات الربح والخسارة، وكذلك بتزايد الخلافات بين واشنطن وبرلين حول الإنفاق العسكري وبعض الملفات الأمنية.
ويبدو أن هنالك قناعة ألمانية بأن تقليص البنتاغون عدد القوات الأميركية من 34500 إلى 9500 عنصر بحلول خريف 2020، لن يؤثر على أمن البلاد، لأنه لم يعد هناك أي تهديد عسكري يبرر الوجود الأميركي الهائل بالأراضي الألمانية.
وتبرز صحيفة "فرانكفورتر الغماينة تسايتونغ" أن القواعد الأميركية المتبقية أصبحت تقوم بأدوار لوجستية ويستخدمها الجيش الأميركي لمساندة أنشطته وعملياته في أجزاء أخرى من العالم وبخاصة في أفغانستان والعراق، وبالتالي فإن سحب القوات لن يكون له أي تأثير كبير على أمن برلين. ووفق الصحيفة فإن الوضع الاستراتيجي في أوروبا لن يتغير، من منطلق أن الأميركيين زادوا من انخراطهم خلال السنوات الأخيرة في الجناح الشرقي لدول حلف شمال الأطلسي، (الناتو).
علاوة على ذلك، فإن برلين كانت تعتبر الانسحاب الأميركي مجرد مسألة وقت، بعدما انتشر ما يقارب 300 ألف من القوات المسلحة الأميركية في غرب ألمانيا منذ الحرب الباردة وتقلص عددهم على مراحل ليصل إلى حوالي 35 ألف جندي.
وفي هذا السياق، كانت تقارير تنبأت بأن تركيز أميركا سيكون على الصين، واهتمامها بأوروبا سيستمر في التراجع، وبالأخص ما يعني السياسة الدفاعية، في ظل تساؤلات إن كان ترامب سيساند الحلفاء في حالة الطوارئ كما هو منصوص عليه في المعاهدات بين دول حلف شمال الأطلسي.
في المقابل، فإن أي تأثير محتمل للانسحاب الأميركي لن يطاول ألمانيا لوحدها، بل سيشمل الجيش الأميركي، بما أنه يشغل مرافق متطورة فاعلة في ألمانيا، وسيكون عليه الاستغناء عنها أو إعادة بنائها في مكان آخر، هذا عدا عن وجود أكثر من 20 ألفا من أسر الجنود الأميركيين، ومغادرتهم ستكون مهمة صعبة.
ويأتي ذلك في وقت يتوقع فيه أن تكون بولندا، التي تسدد نسبة 2% المطلوبة من الناتج المحلي الإجمالي لحلف شمال الأطلسي، مقرا جديدا لنحو 2000 جندي أميركي. وفي هذا الصدد أعرب رئيس الوزراء، ماتيوس مورافيسكي، أمس السبت، عن أمله في أن يتم نشر بعض من القوات الأميركية التي ستنسحب من ألمانيا في أراضي بلاده، وذلك في ظل مباحثات بين الجانبين بهذا الصدد لحماية وارسو من أي هجوم روسي.
على الصعيد السياسي، لم يستبعد مراقبون أن يكون ترامب قد لجأ إلى ردات الفعل، ربما على سبيل المناورة، بعد اعتذار المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، عن المشاركة في قمة مجموعة السبع في واشنطن، فضلا عن نية الضغط على الألمان والأوروبيين من باب أنهم لا يقدمون سوى القليل من أجل الدفاع عن أنفسهم، وكذلك استيائه من عمل ألمانيا على إنجاز خط نورد ستريم 2 لنقل الغاز الروسي.
ويعتبر الألمان أن ترامب غير مقنع في العمل السياسي في طريقة تعامله مع باقي دول حلف شمال الأطلسي، حيث الحاجة إلى المرونة والدبلوماسية والكثير من المصداقية، فمثلا هناك حالة عدم اقتناع بالمبررات التي ذكرت من قبل الأميركيين بخصوص سحب القوات من ألمانيا، والتي تردد من خلالها أن ترامب، وبصفته القائد العام للقوات المسلحة، يتحقق باستمرار من المواقع الفضلى للجيش وأماكن وجوده في المهمات الخارجية.
في خضم ذلك، فإن التحليلات لم تغفل الإشارة إلى أن ترامب وجد نفسه عديم الحيلة أمام أزمات بلاده، بعد أخطاء قد تؤثر على حظوظه الانتخابية في ردة فعله على الاحتجاجات ضد العنصرية في بلاده، وكذلك طريقة تدبيره لأزمة وباء كورونا. وترى قراءات ألمانية أن ترامب لديه مصلحة قبل الانتخابات الأميركية المقررة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل بتقليص النفقات العسكرية لأن دافع الضرائب الأميركي لا يستفيد من تلك المدفوعات بشكل مباشر.
تجدر الإشارة إلى أن توصيات واشنطن حول الانسحاب لم تقلق أحزاب المعارضة الألمانية، واعتبر رئيس كتلة اليسار في البرلمان، ديتمار بارتش، بحسب ما ذكرت شبكة "ان تي في" الإخبارية، أن قراراً كهذا يجب أن يكون محل شكر وامتنان من قبل الحكومة، وأن تعد فورا مع إدارة ترامب لانسحاب كامل للجنود الأميركيين من البلاد.
وأوضح بارتش أن الانسحاب قد يكون أيضا فرصة ليكون هناك قرار آخر يقضي بنقل القنابل النووية الأميركية، وليضيف قائلا: "سيكون لهذا فائدة إضافية وهي أن دافعي الضرائب سيوفرون المليارات، والسبب أنه لن يصار بعدها إلى شراء طائرات مقاتلة جديدة من أجل حماية هذه القنابل".
واعتبر نائب رئيس كتلة حزب "الاتحاد المسيحي"، يوهان فاديفول، أن التعليمات بالانسحاب تمثل دعوة أخرى للأوروبيين لليقظة وأخذ مصيرهم بأيديهم بحزم أكبر، وذلك في ظل تجاهل ترامب إشراك الحلفاء في عمليات صنع القرار.