الانتخابات الرئاسية في تونس: غموض بانتظار السبسي والغنوشي

15 فبراير 2019
لم يعلن السبسي والغنوشي قراريهما بعد (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
لا تزال صورة الانتخابات الرئاسية في تونس، المقررة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، غير واضحة، إذ لم يعلن أي من المرشحين المحتملين نواياهم بوضوح، محتفظين بقرارهم إلى حين "التوقيت المناسب"، وهي عبارة تتردّد على ألسنة الجميع. وتتوجه الأنظار تحديداً إلى ثلاثة مرشحين ممكنين، الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي، ورئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي، ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، بينما تمتدّ القائمة إلى أسماء كثيرة أخرى، من بينها الرئيس السابق منصف المرزوقي، ومؤسس "الحزب الجمهوري" أحمد نجيب الشابي، ورئيس الحكومة الأسبق مهدي جمعة، ورئيس حزب "المبادرة" الوزير الحالي كمال مرجان، والعديد من الأسماء الأخرى ذات العمق الشعبي المتفاوت.

وكان السبسي قد قال يوم الأحد في تصريح إذاعي، إن إعلان ترشحه إلى الاستحقاق الرئاسي من عدمه سيكون في الوقت المناسب. وأشار على هامش مشاركته في القمة الأفريقية في إثيوبيا، إلى أن الدستور يسمح له بالتقدم لفترة رئاسية ثانية، وأنه من المبكر الحديث عن تقديم الترشح الآن. وفي وقت سابق، قال السبسي في حوار صحافي "لست من المؤيّدين لفكرة رئيس مدى الحياة... أنا ضد هذا التوجّه... ليس طموحي أن أبقى رئيساً مدى الحياة". وأضاف "أن هناك دعوة للترشح خصوصاً من النداء الذي كوّنته، لكن ابتعدت عنه منذ تولي رئاسة الجمهورية. زارني أعضاء من النداء وقلت لهم لن أستجيب للنداء الحالي. ستنظمون مؤتمراً جديداً وعندما تأتون بوجوه جديدة تقوي النداء، عندها سأرى". وتابع "ليس هناك إنسان صالح لكل زمان ومكان، قمت بواجبي، لكن ذلك لا يعني أنه من الضروري أن أرشح نفسي للانتخابات، على الرغم من أن الدستور يمكّنني من ولاية ثانية، وأنا لدي حرية التصرف، أستعملها أم لا".

وكان القيادي في "نداء تونس"، بوجمعة الرميلي، قد كشف في تصريح للإذاعة الرسمية أن السبسي أكد خلال اللقاء الذي جمعه بأعضاء من لجنة إعداد مؤتمر "نداء تونس" أن شروط ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة هي نجاح المؤتمر الانتخابي المقبل للحزب وترشيحه من قبل المؤتمرين. وأوضح الرميلي أن مفهوم نجاح المؤتمر بالنسبة لرئيس الجمهورية "هو تحديد خط سياسي يثمّن المكاسب التي جاء من أجلها نداء تونس وقلب بها كل الموازين في تونس وفي العالم العربي الإسلامي"، على حدّ تعبيره، إضافة إلى استخلاص الدروس من أخطاء الماضي والخروج بقيادة مقنعة لقواعد "النداء" وللرأي العام.

وتوضح هذه التصريحات أن السبسي لم يكن في الأصل يفكر في الترشح لولاية ثانية، غير أن انقلاب المعطيات السياسية بشكل مفاجئ بدّل نواياه، فقد انفرط عقده مع حليف السنوات الأربع، راشد الغنوشي، وانقلب عليه "ابنه السياسي" يوسف الشاهد، الذي كان يمكن أن يكون مرشحاً توافقياً لو بقي في "بيت الطاعة". ولكن هذه التغييرات تهدد مشروع السبسي لتونس وتضرب أهم إنجازاته السياسية، حزب "نداء تونس"، وتؤشر إلى نهايته القريبة، إلا إذا استطاع السبسي لملمة الغاضبين والنهوض من جديد بعد المؤتمر المقبل للحزب، واستعاد موقعه كرقم أساسي في المعادلة السياسية بعد صعود "النهضة" وولادة الحزب الجديد "تحيا تونس"، وهو ما يبدو صعباً موضوعياً.

وعلى الرغم من أن السبسي يعرف أنه لا يزال حاضراً بقوة كشخصية سياسية لها حظوظ حقيقية وفق استطلاعات الرأي، فإنه يعرف أيضاً أنه يحتاج إلى قاعدة داعمة كبيرة، تفتتت من حوله منذ الانتخابات الماضية التي جمع فيها أطيافاً دستورية ونقابية ويسارية وليبيرالية، لمواجهة مشروع "النهضة" وقتها. لكن الظروف تغيّرت بشكل جوهري منذ ذلك الوقت، ولم يعد الاصطفاف الأيديولوجي القوي عاملاً حاسماً، على الرغم من أنه لا يزال مؤثراً، وربما تكون الإشارات الأخيرة مدعاة لفصل جديد من ذلك الصراع، يسعى السبسي لاستعمالها كآخر أوراقه في هذه المعركة المنتظرة.


في الجانب الآخر، لا يزال موقف حركة "النهضة" غامضاً هو الآخر، فقد أكد مجلس شورى الحركة، الذي عُقد يوم الأحد، أن "النهضة" ستكون معنية بالانتخابات الرئاسية وستقدم مرشحاً ولن تكون محايدة مثلما كانت في 2014، وأن مجلس الشورى طالب المجلس التنفيذي بأن يدرس مختلف الفرضيات في إطار تقدير مصلحة البلاد ومصلحة "النهضة"، إما بتقديم مرشح قيادي من داخلها أو مساندة مرشح من خارجها.

وللتذكير فإن القانون الداخلي للحركة يشير إلى أن رئيسها يكون هو المرشح للمناصب العليا، ولكن سبق للغنوشي شخصياً التأكيد منذ شهر بمناسبة عيد الثورة أنه لا يطمح إلى الترشح للرئاسة. وأضاف أن حزبه التزم الحياد في انتخابات 2014، ولكنه سيشارك رسمياً في الرئاسيات المقبلة، لأن حزباً في حجم "النهضة" لا يمكن أن يكون على الحياد في أي انتخابات، لأن ذلك يُعتبر تشكيكاً فيها وبالتالي ضرباً للديمقراطية، موضحاً أن حركة "النهضة" لم تقرر بعد هل ستقدّم مرشحاً من داخلها أو تزكي مرشحاً توافقياً آخر من خارجها، مشدداً على ضرورة إجراء هذا الاقتراع في موعده. ولكنه أشار إلى أن دعم مرشح من الخارج قد يكون الأرجح، ولكن بعد أن تدرس مؤسسات الحركة هذا الملف وترى ما هو الخيار الأصلح وطنياً.

هذا الكلام المكرر، حول مرشح من "النهضة" أو من الخارج وفق المصلحة الوطنية ومصلحة الحركة، يأتي بعد حسابات جديدة دخلت على الخط، مردها قراءات ترى أن "النهضة" يمكن أن تدخل على خط التنافس في هذا الاستحقاق الرئاسي بعد تصاعد حجمها ونجاحها في المحافظة عليه وسط كل الانشقاقات التي طاولت أحزاباً أخرى، وترى أن "النهضة" قريبة جداً من هذا "الطموح التاريخي" الذي ينهي خصومتها مع الدولة عبر تكريسها في أهم مناصب الدولة المعنوية، بعد أن أصبحت شريكاً أساسياً في الحكم وإدارة البلاد.

وعلى الرغم من أن الغنوشي قال إن الثورة كافأته كما ينبغي وأعطته أكثر مما ينتظر وأنه لا يطمح إلى الرئاسة، إلا أن رئيس كتلة "النهضة" في البرلمان، نور الدين البحيري، قال إن الحركة قد ترشح الغنوشي على الرغم من عدم طموحه، وكذلك شخصيات عديدة أخرى داخل "النهضة"، ترى أن السياق الوطني والدولي أصبح أكثر استعداداً لأفكار من هذا النوع، ولكن هذا الأمر يعارضه بشدة تيار آخر يرى أن "النهضة" تملك قرار الرئاسيات إذا لم تترشح، ولكنها قد تخسر الكثير إذا ترشحت لأنها ستوحّد الجميع ضدها في الجولة الثانية من الرئاسيات.

وفي هذا السياق، قال القيادي في "النهضة" عبد اللطيف المكي، في حوار إذاعي، إنه لا ينصح السبسي ولا الغنوشي بالترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة. وأضاف أن تونس تحتاج إلى قيادات جديدة، مؤكداً أن السبسي والغنوشي يمكن أن يقوما بأدوار أدبية بفضل تأثيرهما في البلاد من دون أن يكونا في مناصب رسمية. ويلمّح المكي إلى عمر الرجلين، وهو المعيار الذي قد يعتمد عليه الشاهد في منافسته للاثنين، ولكن التلويح بترشح السبسي قد يكون مجرد ورقة لقطع الطريق على الغنوشي والشاهد، فقد سبق لرئيس الحكومة أن أكد علناً أنه لن يترشح بمواجهة السبسي، كما يبدو أن الغنوشي أعلن الشيء نفسه سراً، بحسب ما يردده البعض، ولكن ذلك كان في سياق مختلف تماماً اختلطت بعده الحسابات كثيراً.

أمام هذا الواقع، يتبيّن اليوم وجود رغبة لدى "النهضة" في دخول هذا الاستحقاق، ولكنها رغبة مشوبة بكثير من التردد، لأن تداعياتها ستكون مهمة، فيما لا يزال المزاج الانتخابي التونسي وآراء الناس غير واضحة تجاه هذه الشخصيات الثلاث، مع أن شخصيات أخرى لا تزال على خط المنافسة بجدية، مثل المرزوقي، كما قد تحدث مفاجأة أيضاً من أسماء أخرى بعيداً عن منطق الحسابات الحالية.