سلام كولومبيا متعثّر... أطول حرب أهلية تنتظر نهاية الثأر

03 مايو 2016
يحظى أوريبي بشعبية كبيرة في أوساط الجيش والعمال(فرانس برس)
+ الخط -
يبقى السلام في كولومبيا صعب المنال دائماً، فحربها الأهلية هي الأطول في التاريخ الحديث، بدأت منذ عام 1964 وتستمر حتى اليوم. دائماً ما اتخذ الصراع بين الحكومة الكولومبية و"القوات المسلحة الثورية الكولومبية" (فارك)، و"جيش التحرير الوطني" (إي أل أن)، طابعاً دموياً، ممزوجاً بحروب الكوكايين وعمليات الخطف. ومن الطبيعي بعد 52 عاماً من الحروب المتناسلة، أن يكون الشعب الكولومبي الموالي للسلطات أقلّ تقبّلاً لفكرة السلام مع التنظيمَين.

اجتاحت تظاهرات حاشدة، يوم السبت 2 إبريل/نيسان الماضي، المدن الرئيسية في كولومبيا، العاصمة بوغوتا وميديين وكالي و17 مدينة أخرى، ضمّت، وفق المنظمين، أكثر من 300 ألف شخص. رفض المتظاهرون عملية السلام مع "جيش التحرير الوطني"، التي أُعلن عن قيامها في الإكوادور، بموازاة عملية السلام مع "فارك" التي بدأت في كوبا عام 2012. هاجم المتظاهرون الرئيس خوان مانويل سانتوس الذي يقود مساراً سلمياً صعباً في ظلّ سقوط أكثر من 260 ألف قتيل، وفقدان 45 ألف شخص، ونزوح أكثر من 6.6 ملايين شخص على مدار خمسة عقود. وعلى الرغم من اتهامه بـ"الخيانة" والدعوة إلى الاستقالة، لا يريد سانتوس التراجع.

تواجهت السلطات مع "فارك" و"جيش التحرير الوطني" طيلة هذه السنوات، ولم يتمكن أحد من الحسم، حتى مع الدعم الدولي الذي تلقّته بوغوتا من الأميركيين. دعم لم تظهر نتيجته لوجود عامل أساسي من جهة الحكومة: الفساد في النظام الكولومبي. أدى هذا الفساد إلى استغلال عصابات الجريمة المنظمة وكبار تجار المخدرات الحرب الأهلية للقضاء على القضاة النزيهين ورجال الشرطة، لتنشغل السلطات بمحاربة هؤلاء، عوضاً عن تخصيص الموارد لمواجهة "فارك" و"جيش التحرير الوطني" وغيرهما من الحركات اليمينية واليسارية، على حدّ سواء، في البلاد.

وعلى الرغم من أنّ نشوء عملية السلام عموماً سنة 1991 ارتبط، بالصدفة، مع انتهاء الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، وسقوط جدار برلين الألماني (1989)، وبدء أعمال مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط (1991)، ونهاية حقبة الاتحاد السوفييتي (1991)، فإنها لم تكن حاسمة ونهائية. بل استمرت الحرب بعدها لأكثر من 21 عاماً إضافياً، قبل بدء محادثات هافانا بين الحكومة و"فارك".

ولعلّ السنوات الـ21 الماضية، وبروز العجز الحكومي في وضع حدّ للحرب الكولومبية، دفع سانتوس إلى اتخاذ خيار معاكس لكل خيارات أسلافه، والإعلان في سبتمبر/أيلول الماضي، أن "السلام مع فارك سيحصل خلال ستة أشهر"، مضيفاً أنه "خلال ستة أشهر سنقول وداعاً نهائياً لآخر وأطول حرب ليس في كولومبيا وحدها، بل في القارة الأميركية". مرّت الأشهر الستة (كان يفترض نظرياً أن يتم توقيع السلام في مارس/آذار الماضي، وهو ما لم يحصل)، ثم الشهرين السابع والثامن، ولم يتحقق السلام المنشود من دون أن يعني ذلك أن حظوظه تراجعت.

يعود السبب إلى اعتراض الرئيس السابق ألفارو أوريبي (2002 ـ 2010)، صاحب الشعبية الكبيرة في أوساط الجيش والطبقة العمالية في البلاد. أوريبي المتحمّس لحسم الصراع بالعنف، وجد في المفاوضات الحكومية الحالية "انقلاباً" من السلطات لصالح "فارك" و"جيش التحرير الوطني". لموقف الرئيس الكولومبي السابق، أسبابه الموجبة؛ ففي عام 1983، قُتل والده على يد "فارك" أثناء عملية خطف، وهو ما حدا بأوريبي إلى وضع دراسته للقانون جانباً والتركيز على السياسة، لتحقيق ثأره لوالده. بات عضواً في الحزب الليبيرالي الكولومبي (يسار وسط)، وأيّد علناً مجموعات "كونفيفير" (مجموعات للحراسة شكّلتها وزارة الدفاع الكولومبية عام 1994 لرصد مناصري فارك وجيش التحرير الوطني). صعد نجم أوريبي بقوة في بوغوتا، قبل أن يُصبح رئيساً.

في عهده الرئاسي، هاجم أوريبي "فارك" و"جيش التحرير الوطني" عسكرياً، وهادن مجموعات يمينية مناوئة لبوغوتا. وكان واضحاً ألا حلّ سلمياً بالنسبة إليه مع "فارك". قال عام 2014، إن "فارك هو أكبر كارتل (تجمّع) للكوكايين في العالم. وقد كان المورد الرئيسي للكوكايين إلى العصابات المكسيكية، وبالتالي فإنه لا يمكن أن تتفاوض حكومتنا في مستقبل سياسة مكافحة المخدرات مع أكبر كارتل للكوكايين. الإفلات من العقاب يكسر التزام كولومبيا مع المجتمع الدولي".

والسبب الأساسي للاندفاعة ضد سانتوس، هو أن عملية السلام ستؤدي إلى صدور شبه عفو كامل لـ"فارك" و"جيش التحرير الوطني". وظهر ذلك، من خلال إعلان السلطات القضائية الكولومبية، العام الماضي، تعليق الملاحقات القضائية بحق زعيم "فارك" تيموليون خيمينيز، المُلقّب بـ"تيموشنكو"، بتهم "ارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان". كما عدّلت السلطات مسار التحقيق بما "يتماشى والعدالة الانتقالية". ومن شأن العفو العام عرقلة مسار البحث عن المفقودين طيلة هذه السنوات، وأماكن دفنهم، فضلاً عن عدم محاسبة المرتكبين من الحركات، والجبهات اليمينية واليسارية، ومجموعات الدفاع الذاتي، و"كونفيفير"، والجيش الكولومبي. مع العلم، أن عشرات الآلاف من أهالي المفقودين في كولومبيا يجهدون لمعرفة مصير مفقوديهم، في ظلّ صعوبة الأمر لناحية دفن كثيرين منهم في مقابر جماعية، بعضها سري، فيما رُميت جثث آخرين في الأنهر.

مع ذلك، يبدو أن الدفع الدولي لعملية السلام أكبر من إمكانية العرقلة الداخلية. فـ"فارك"، اليسارية، طلبت دعم البابا فرنسيس، في 17 إبريل/نيسان الماضي، في مفاوضات السلام بينها وبين الحكومة الكولومبية في منعطفها الأخير، معربة عن خشيتها من أن تنجح أطراف "مستفيدة من الحرب" في اجهاض العملية السلمية. وذكر زعيم الحركة، خيمينيز، في رسالة مفتوحة إلى البابا، أنه "تتجمّع في الأفق غيوم عاصفة خطرة تهدد بالقضاء على جهد ضخم بذله كل الكولومبيين".

وسط كل هذا، يبقى أنّ أفضل ما حصل في السنوات الأخيرة، هو تراجع عدد المسلّحين، خصوصاً الذين انضموا بدافع "الثأر" إلى مختلف المجموعات اليمينية واليسارية. حتى إن بعضهم خرج من صفوف التشكيلات العسكرية نادماً على مشاركته فيها، وظهر ذلك في انخفاض عدد المقاتلين في "فارك" إلى أقلّ من 7 آلاف عنصر، وفي "جيش التحرير الوطني" إلى أقلّ من 3 آلاف. قد يتأخر سلام كولومبيا بعض الشيء، لكنه آتٍ.


دلالات