والأسباب الحقيقية التي دفعت ترامب إلى أداء دور الرئيس الذي يجمع الحزبين أمام الكاميرات، وإطلاقه مباشرة على الهواء، مفاوضات ونقاشات حول قوانين الهجرة وكيفية تسوية أوضاع المهاجرين غير الشرعيين، لا تزال غير واضحة تماماً. فهل هي عاصفة كتاب "النار والغضب" الذي أشعل الحرب مع حليفه السابق ستيف بانون؟ أم هي التحقيقات بالتدخل الروسي التي يقودها المحقق الخاص روبرت مولر، والحديث عن أن المحقّق الخاص أبلغ فريق المحامين في البيت الأبيض عن عزمه إجراء مقابلة مع الرئيس لطرح عدد من الأسئلة عليه بشأن مستشاره السابق للأمن القومي الجنرال مايكل فلين، وقضية إقالة جيمس كومي مدير "أف بي آي" السابق؟
بمعزل عن تلك الأسئلة وغيرها من الاعتبارات الكثيرة، فإن ترامب أثبت أنه محترفٌ في عقد الصفقات، وقد نال إعجاب أعتى خصومه في السياسة والإعلام. حتى أن صحافيي قناة "سي أن أن" لم يخفوا دهشتهم من قرار ترامب الجريء و"الرئاسي" بالسماح لكاميرات الصحافيين بنقل نحو ساعة من النقاشات الصريحة بين أعضاء الكونغرس والرئيس، الذي رمى الكرة أيضاً في ملعب الكونغرس بقوله إنه مستعد للتوقيع على أي قانون للهجرة يتفقّ عليه الحزبان الديمقراطي والجمهوري في مجلسي الشيوخ والنواب.
وتبنّى ترامب في كلامه مع أعضاء الكونغرس من الجمهوريين والديمقراطيين، خطاباً مرناً هدفه قبل كل شيء التوصّل إلى اتفاق على قضايا الهجرة، وفي طليعتها مسألة تسوية أوضاع أبناء المهاجرين غير الشرعيين الذين كان ينظّم إقامتهم في الولايات المتحدة نظام "داكا" الذي وضعه الرئيس السابق باراك أوباما. وانسحبت مرونة الرئيس على مسألة بناء الجدار مع المكسيك التي كان في خطابات سابقة، قد اشترط على الديمقراطيين تأمين تمويل بنائه في إطار التفاهم على حلّ قضية الحالمين.
ودعا ترامب إلى "حلّ دائم" للذين يُعرفون باسم "دريمرز" (الحالمين)، مضيفاً أن "الأمن على الحدود" يجب أن يكون إحدى ركائز أي قانون حول الهجرة. وقال "نحن بحاجة إلى جدار"، مشيراً إلى أنه لن يكون من الضروري بناء الجدار على طول الحدود بسبب وجود عقبات طبيعية مثل الأنهار والجبال تقوم مقام الجدار في مناطق عدة، فيما منع قاضٍ أميركي إدارة ترامب، الثلاثاء، بصفة مؤقتة من وقف العمل ببرنامج "داكا" الذي يوفر الحماية للأطفال الذين جلبهم آباؤهم إلى الولايات المتحدة بشكل غير قانوني، من الترحيل.
وأبلغ ترامب أعضاء الكونغرس الذين طرحوا نقاط الخلاف حول قضايا الهجرة، أنه يطلب منهم الاتفاق على قانون بأسرع وقت ممكن، وأنه على استعداد للتوقيع على أي قانون يتوصلون إليه.
ولا يخفى أن مرونة ترامب بموضوع الجدار وتوجهاته الجديدة في ملف الهجرة، انقلابٌ على أجندته الانتخابية التي كانت تعبّر عن وجهة نظر الجمهوريين المحافظين، وتلقى تأييداً كبيراً وسط اليمين الأميركي المتطرّف عنصرياً. كما لا تخفى دلالة أن تتزامن المصالحة الوطنية، المنقولة مباشرة على الشاشات، بين ترامب و"الاستبلشمنت" الأميركي بشقيه الجمهوري والديمقراطي، مع إعلان صاحب موقع "بريتبارت" اليميني عن إقالة ستيف بانون من منصب مدير الموقع، بسبب ما قاله عن ترامب في كتاب مايكل وولف "النار والغضب".
وتعليقاً على هذا الاجتماع الأخير، اعتبرت صحيفة "نيويورك تايمز" أنه بعد أيام من النقاشات الحادة حول أهلية ترامب ليكون في منصب الرئيس، بدا الأخير عازماً على إثبات أنه يستطيع قيادة أميركا وتولي مهام الرئاسة. وقالت "أبدى الرئيس محبة وهدوءاً غير معتادين خلال الاجتماع. فبالنسبة لمستشاريه، كان ذلك محل ارتياح، وجعل ترامب يبدو كأي رئيس تقليدي في هذا المنصب. أما ناقدوه، فقد رحبوا بهذا التغيير واعتبروا ذلك لحظة من المشاركة البناءة التي يأملون أن تستمر".
لكن الصحيفة اعتبرت، في الوقت ذاته، أن الاجتماع كان مقياساً للضعف السياسي لترامب. فهو لم يبدُ غير سويٍّ، ولكنه لم يثبت إتقان تفاصيل السياسة بعد عام في منصبه. وقالت إن ترامب "أثبت مرة أخرى أن تفاصيل الحكم لا تهمه بقدر ما يهمه النجاح، فأخبر قادة الكونغرس أنه سيوقّع على كل ما يتفقون عليه".
ونقلت الصحيفة عن السيناتور الديمقراطي عن هاواي، مازي هيرونو، قوله: "من الغريب إلى حدّ ما أن يكون على الرئيس أن يثبت أنه متزن وعاقل فعلاً"، في حين قال السيناتور الديمقراطي عن ولاية كولورادو، مايكل بينيت: "كان الاجتماع بنّاءً أكثر مما اعتقدت. دخلت معتقداً بأنه سيكون مجرد فرصة لأخذ صورة تذكارية، وللسماح له بأن يتظاهر بأنه ليس الشخص الذي وجهت إليه الاتهامات في عطلة نهاية الأسبوع، لكنني أعتقد أن الاجتماع كان بنّاءً أكثر من ذلك".
وأثنت الصحيفة على السماح للإعلام بحضور المناقشات لنحو ساعة من الوقت، في الوقت الذي يقتصر وجوده، في مثل هذه الاجتماعات، على الدقائق الأولى فقط.
أما صحيفة "واشنطن بوست"، فقد ركّزت على إثبات ترامب بأنه قليل معرفة بتفاصيل الحكم الدقيقة. وذكرت أنه عندما تم سؤاله خلال الاجتماع عن مشروع قانون "داكا نظيف"، بدا واضحاً أنه لم يفهم ماذا يعني، وسرعان ما تدخّل زعيم الأغلبية في مجلس النواب كيفن مكارثي لينقذ موقف الرئيس، قائلاً إن ترامب يعتقد بأن مشروع قانون نظيف سيشمل أمن الحدود. وأضافت الصحيفة أن ما قاله مكارثي أيضاً لا يعني مشروع قانون نظيف، إنما مشروع قانون تسوية، لأن القانون النظيف لا يشمل إلاّ بنداً واحداً في داخله.
واعتبرت "واشنطن بوست" أن هذه الفوضى أظهرت بشكل واضح حجم الهوّة بين ترامب ومدى فهمه للتفاصيل الدقيقة في المناقشات السياسية.