في الوقت الضائع بين محاكمة عزل الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الكونغرس بتهمة انتهاك الدستور، ومحاكمة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتهم فساد، يستعجل البيت الأبيض استخراج خطة "السلام" المفترضة بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى العلن بعد تأجيل متكرر، منعاً لإحراج نتنياهو داخلياً. الإعلان عن خطة الإملاءات الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية التي تُعرف إعلامياً بـ"صفقة القرن" في هذا التوقيت الملتبس تحديداً، يعني أن إدارة ترامب غسلت يديها من السلام في المنطقة، في وقت احتفظت فيه إسرائيل بالفوائد التي اكتسبتها من الوقائع التي فرضتها هذه الصفقة.
اعتاد نتنياهو، الذي تباهى بأنه سيصنع التاريخ مع ترامب في هذا الاجتماع اليوم، على استلام هدايا الرئيس الجمهوري عشية كل انتخابات إسرائيلية تكررت أكثر من مرة في الفترة الأخيرة، لا سيما عندما وقّع ترامب مرسوماً يعترف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية المحتلة، عشية انتخابات الكنيست في شهر إبريل/نيسان 2019. وبعدما ناشد واشنطن لأكثر من عام تأجيل إعلان "صفقة القرن"، لم يعد لدى نتنياهو حيلة للهروب من محاكمته، غير اختراع لحظةٍ تاريخية في المكتب البيضاوي، سينضم إليها مجموعةٌ من قادة المستوطنات دعاهم لحضورها.
ترامب أيضاً لا يمانع ملهاةً جديدة بعيداً عن فضائح "أوكرانيا غايت"، تعطيه فرصةً لصرف الأنظار، ولو قليلاً، عن الأسبوع الثاني والحاسم في محاكمة العزل. هذا الترابط العضوي بين المصير الانتخابي لترامب ونتنياهو كان واضحاً على هامش "منتدى الهولوكوست" العالمي في إسرائيل، الأسبوع الماضي، عندما سُمع نائب الرئيس الأميركي مايك بنس يقول لنتنياهو حين سأله عن ترامب وإجراءات العزل: "نحن ننافس. إنه شخص لا يمكن وقفه، مثل شخص آخر أعرفه".
في نظر بنس، لا يمكن وقف لا ترامب ولا نتنياهو انتخابياً، لا سيما أن نائب الرئيس الذي يمثل التيار الإنجيلي داخل إدارة ترامب، هو عرّاب هذا الحلف بين الإنجيليين ومجموعات الضغط الإسرائيلية في الولايات المتحدة. لا يزال ترامب يحاول اللعب على ورقة أنه الداعم الأول لإسرائيل بدل الديمقراطيين، كما فعل حين طلب من نتنياهو منع النائبتين في الكونغرس رشيدة طليب وإلهان عمر من زيارة الأراضي المحتلة.
والملفت في هذا الصراع الذي يُصرّ عليه ترامب، أن من يقود فريق الادعاء عليه في محاكمة مجلس الشيوخ هما نائبان يهوديان أميركيان، رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب آدم شيف، وزميله رئيس لجنة العدل جاري نادلر. حتى لو كان صعباً على ترامب رفع مستوى شعبيته بين اليهود الأميركيين الذين تبقى ميول الأكثرية بينهم ليبرالية، لكن هدف الرئيس الجمهوري الرئيسي عبر دعم إسرائيل المطلق هو بالأساس تحشيد قاعدته الإنجيلية في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
خطة سلام إدارة ترامب بدأت تنفذ عملياً، عبر تهميش القرار الفلسطيني، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، وتعزيز التعاون العربي - الإسرائيلي ضد إيران، وبالتالي إعلان هذه الخطة المفترضة سيكون رمزياً في هذه اللحظة الفاصلة في الوقت الضائع بين الانتخابات الإسرائيلية في شهر مارس/آذار المقبل والانتخابات الأميركية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. يعلم نتنياهو جيداً أن هذا الإعلان الرمزي هو هروب إلى الأمام من السياسة الإسرائيلية، ولحظة لتصوير ترامب على أنه أفضل صانع صفقات في التاريخ الحديث، فيما الواقع على الأرض سيبقى كما هو، لتنضم "صفقة القرن" إلى محاولات أميركية سابقة وضعت على الرف.
الخطة المفترضة هي طور الإعداد منذ عام 2017، وتحمل توقيع صهر ترامب ومستشاره جاريد كوشنر، والمبعوث الرئاسي السابق جايسون غرينبلات، والسفير الأميركي لدى إسرائيل ديفيد فريدمان. الشق الاقتصادي الذي تمّ الإعلان عنه في شهر يونيو/حزيران الماضي يعطي حوافز اقتصادية للفلسطينيين تحت ستار 50 مليار دولار من الاستثمارات الدولية، وهي مقاربة وصلت بكوشنر إلى حدّ تشبيهها بخطة مارشال لإعادة بناء أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. وبحسب التسريبات، الخطة لن تتضمن عبارة "حلّ الدولتين"، وتعطي الطرف الإسرائيلي السيادة على 30 في المائة من الضفة الغربية ومشروع "الحوض المقدس" الذي يتضمن حائط البراق، فيما تكون بعض الأحياء العربية في القدس الشرقية ضمن دولة مستقبلية منزوعة السلاح تمتد على 70 في المائة من الأراضي الفلسطينية.
آخر مرة قامت واشنطن بمحاولة وساطة كانت عبر المبعوث الأميركي السابق جورج ميتشل عامي 2010-2011، وبعدها وزير الخارجية الأسبق جون كيري عامي 2013-2014، لكن الفارق هذه المرة غياب أي دور لوزارة الخارجية الأميركية أو أي طرف آخر في المؤسسة الحاكمة في واشنطن. وهي المرة الأولى التي تعلن فيها أي إدارة أميركية خطةً قبل أي تواصل مباشر أو تفاوض مع الطرف الفلسطيني، كما هي أول "خطة سلام" يتم الإعلان عنها بالتزامن مع حالة تأهب للجيش الإسرائيلي، خشية من أي تداعيات وتوترات تترافق مع إعلانها.
لم يمانع نتنياهو اقتراح البيت الأبيض عقد لقاءٍ ثلاثي يضم زعيم تحالف "أزرق أبيض" الإسرائيلي بني غانتس، لأنه يدرك أن حضور الأخير يساعده على تبرير أي موقفٍ يصدر عنه حيال "صفقة القرن" خلال حملته الانتخابية. لكن غانتس تهرب من هذا الكمين واقترح لقاء منفصلاً مع ترامب، من دون الإدلاء بأي تصريح قبل العودة إلى إسرائيل لمواصلة محاولته تجميد طلب نتنياهو في الكنيست للحصول على حصانة من الادعاء. غانتس يحاول إبقاء علاقته قائمة مع ترامب في حال أصبح رئيس الوزراء الإسرائيلي المقبل، لكن صور ترامب - نتنياهو خلال الحملات الانتخابية الإسرائيلية تعطي انطباعاً أن الإدارة الأميركية طرفٌ في السياسة الإسرائيلية الداخلية، وهذا أمر غير مسبوق في واشنطن التي ظلّت تاريخياً حيادية في هذا المجال. بإعلان الخطة عشية الانتخابات الإسرائيلية، يؤكد ترامب على التداخل بين السياستين الأميركية والإسرائيلية خلال ولايته.
في المقابل، تهدد السلطة الفلسطينية بالانسحاب من بنود رئيسية في اتفاق أوسلو إذا أعلن ترامب عن خطة إدارته للسلام، ما قد يعطي هدية مجانية لليمين الإسرائيلي، في ظلّ تقويض مسار أوسلو لسيادة للسلطة الفلسطينية على الضفة الغربية. الخيارات الفلسطينية محدودة في ظلّ الانقسامات الداخلية والوهن العربي الذي يصل إلى حدود التماهي مع إسرائيل. خطأ الفلسطينيين قد يكون في الإفراط بخوض معركة إسقاط هذا الفاصل الإعلاني بين محاكمتين، وبالتالي إعطاء نتنياهو وترامب كبش فداء لتوجيه اللوم إليهم بإفشال ما كان ليكون "صفقة القرن".