أزمة غرينلاند تعيد تهافت القوى العظمى على المنطقة القطبية الشمالية

21 اغسطس 2019
أهمية غرينلاند لأميركا تسبق وصول ترامب إلى الرئاسة (Getty)
+ الخط -

فجّر تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فجر اليوم الأربعاء، بخصوص صفقة شراء جزيرة غرينلاند، أزمة علاقات مع كوبنهاغن، الحليف التقليدي الذي فتح أبواب الجزيرة أمام أميركا منذ الحرب العالمية الثانية.

وتعيد هذه الأزمة مرة أخرى السجال حول تهافت قوى كبرى نحو السيطرة في المنطقة القطبية الشمالية، ليس فقط لأسباب جيوسياسية، أو عسكرية خالصة، بل أيضاً لأسباب تتعلق بالموارد الطبيعية وطرق التجارة، التي عبر عنها ترامب "بعقلية فظة وكتاجر ظن أن كل شيء قابل للبيع"، بحسب ما وصفه زعيم حزب سياسي دنماركي، مورتن أوسترغورد، الذي يدافع عن توثيق التعاون الأوروبي بوجه سياسات واشنطن في عهد ترامب.

أهمية غرينلاند الاستراتيجية بالنسبة للأميركيين تسبق بكثير وصول ترامب إلى البيت الأبيض، إذ عبرت واشنطن دائماً عن خشيتها من تحول الجزيرة، القريبة من الجغرافية الأميركية والكندية، إلى موطئ قدم لقوى تنافس واشنطن، وفي القائمة روسيا والصين، وبالأخص في سنوات ترامب الأخيرة، التي تشهد حرباً تجارية واقتصادية مع بكين، مع وجود مستشارين محيطين به يرون، كغيرهم من حلفائهم على الضفة الأخرى من الأطلسي، وبينهم الدنماركيون والنرويجيون، اشتداد التنافس في منطقة كانت نوعاً ما خارج حالة التنازع، وخصوصاً مع تمدد روسي ومحاولات صينية لإيجاد ذلك الموطئ من بوابة الاستثمارات على أرض جزيرة غرينلاند.

متغيرات

خلال الأعوام الخمسة الماضية، لاحظ المتابعون والمختصون الأوروبيون الشماليون في شؤون المنطقة القطبية الشمالية أن متغيرات كثيرة باتت تفرض نفسها في المنطقة، فليس أصحاب نظرية تأثير التغيرات المناخية والبيئية هم وحدهم من يقدمون تقاريرهم المتشائمة عن ارتفاع درجات الحرارة والانكشافات الجليدية وانحسارها في البحر المتجمد الشمالي، بل هناك تقارير كثيرة عن التهافت على المنطقة القطبية، الذي بات يتخذ طابعاً عسكرياً واضحاً من قبل موسكو، واستثمارياً من الصين، ويبرر اليوم بعنوان التنافس على السيطرة على "الأرض الجديدة"، الغنية بالموارد الطبيعية والتي تحتل أهمية عسكرية وأمنية.


ومن ضمن المتغيرات التي شهدتها الأعوام الماضية أن غرينلاند، ذات المساحة التي تتجاوز 2 مليون كيلومتر مربع، والتي لم تحد يوماً عن "التحالف الغربي"، وبالأخص في العلاقة التاريخية الرابطة بين صاحبة السيادة، الدنمارك، بواشنطن، على مدى أكثر من 73 عاماً، باتت اليوم محور تجاذب وتنافس بين الأميركيين والصينيين المندفعين بمليارات الدولارات من الاستثمارات وبمقترح إقامة مطارين في الجزيرة.

ويبدو الأميركيون وكأنهم يعيشون حالة ذعر من منافسة المال الصيني لهم، وعبر عنه ترامب أثناء التحضير لزيارته إلى كوبنهاغن، التي كان يفترض أن تتم في الفترة بين الثاني والثالث من سبتمبر/ أيلول المقبل، والتي أجلها (ألغاها) الرجل فجر اليوم الأربعاء من جانب واحد، ما تسبب بتأزيم علاقة بلاده بحليف آخر في "ناتو"، بطرح فكرة شراء الجزيرة، ما يوضح الأهمية التي توليها القوى العظمى للمنطقة القطبية الشمالية.

ويأتي طرح ترامب بهذا الشكل في سياق استراتيجية أميركية واسعة لتعزيز النفوذ في المنطقة، ففي سبتمبر/ أيلول 2018 جاءت نتائج مشروع وضعه مستشار السياسات الدفاعية في البنتاغون، جون روود، والمتعلق باستراتيجية الاستثمار الدفاعي في غرينلاند، بتوقيع على الجانبين الدنماركي والأميركي على تلك الاستراتيجية، على أرض الجزيرة باحتفال رسمي ضيق، بحسب ما كشف عنه مدير "مركز الدراسات العسكرية" في كوبنهاغن مؤخرا، هينريك برايتنباوك.



ويقرأ الأميركيون، كما يتضح من الاستراتيجية الدفاعية، التي وقع عليها الطرفان، أن التمدد الروسي الصيني نحو المنطقة القطبية الشمالية بات "خطراً مباشراً"، وهو ما دفع ببعض الاستراتيجيين إلى طلب التركيز الأميركي على تلك المنطقة، والمحيط الهادئ، بدلا من التركيز على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

ورأى هؤلاء، وفقاً لما كشفه أيضاً برايتنباوك، أن "الأميركيين باتوا أكثر توجها، وبالأخص في البنتاغون، لقراءة خطر تحركات موسكو وبكين بذات القدر الكوري الشمالي والإيراني، وأعينهم أكثر توجها نحو الأطلسي والهادئ والقطب الشمالي".

ومن بين الخطوات التي أقدم عليها الأميركيون، في مسعى تأكيد مواجهة القوتين الروسية والصينية، إعادة بناء قوة بحرية أميركية في شمال الأطلسي بمسمى "الأسطول الثاني"، وتتوسع مسؤولية هذا الأسطول العسكري نحو شمال الولايات المتحدة والقطب الشمالي، فإعادة بناء ذات الأسطول العسكري الذي كان يقارع الاتحاد السوفييتي خلال فترة الحرب الباردة لها رمزيتها في تأكيد الاندفاعة نحو المنطقة القطبية الشمالية، ما يؤكد تلك الأولوية التي يوليها العسكريون الأميركيون للشمال.

وما يعزز ذلك التوجه أن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو تحدث في مايو/ أيار الماضي بشكل واضح عن رغبة بلاده " في تقوية الحضور في المنطقة القطبية الشمالية"، ولم يخف بومبيو الهدف من تعزيز حضور واشنطن في تلك المنطقة كجواب على ما سماه "أنشطة روسيا المزعزعة للاستقرار، وسنجري مناورات عسكرية ونعزز وجودنا الدفاعي، بإعادة بناء أسطولنا وكاسحات الجليد وسنرفع موزانات خفر السواحل والدفع بمحفزات أكثر لإنشاء وظائف عسكرية جديدة ورفيعة فيما يخص النقاط العسكرية في القطب الشمالي".

وفي معرض مناقشات إعلامية صباح اليوم لإلغاء زيارة ترامب لبلدهم، يربط مختصون في الشؤون الدفاعية في كوبنهاغن بين تلك الاستراتيجية الأميركية والزيارة التي كانت مقررة، وما أصابها من فشل تسببت به تصريحات ترامب عن شراء الجزيرة، بدلاً عما كان مخططاً له من تعميق التعاون بوجود رئيسة الوزراء، ميتا فريدركسن، ومسؤول البرلمان المحلي (سيموت) في غرينلاند/ كيم كيلسن.

تنافس قوى

احتدم التنافس على المنطقة القطبية خلال السنوات الأخيرة، وبدا الخوف الأميركي أكبر من سنوات خلت، مع تقدم صيني تخشاه واشنطن؛ التي تعيش شبه حرب تجارية وباردة سياسية مع بكين.

فتاريخياً، كان خط المواجهة الصيني الأميركي مرسوماً بشكل واضح في منطقة بحر الصين الجنوبي، حيث أقامت الصين جزراً اصطناعية ونشرت المزيد من الأساطيل لتجد أن بكين وصلت إلى القطب المتجمد الشمالي، وبالأخص حول غرينلاند.

فخلال السنوات الماضية، بات الدنماركيون يلحظون نشاطاً بحرياً صينياً قرب مياه الجزيرة، والتي تحاول بكين النفاذ إليها من خلال طرح مشاريع استثمارية، تبدو على السطح بريئة باسم "خطوط تجارية"، في محاولة لإقناع الحكومة المحلية في غرينلاند قبول استثمار الملايين للاستثمار في جزيرتهم، وهو أمر أثار انتباه الأميركيين وحكومة كوبنهاغن المحافظة السابقة، التي وعدت بضخ استثمارات إضافية وتعزيز وضع الجزيرة، وهو الأمر الذي لمح إليه ترامب عن "التكلفة" التي تصل إلى نحو 700 مليون دولار سنوياً تضخها كوبنهاغن في غرينلاند، لتبرير طرح شرائها. ذلك الضخ الدنماركي، في عهد حكومة رئيس الوزراء الليبرالي السابق، لارس لوكا راسموسن، يقصد منه أيضا استثمارات في بناء مطار جديد لإبعاد الصينيين عن الجزيرة.

وتذهب الخشية الأميركية أيضاً إلى حد اتهام موسكو وبكين بالتعاون للهيمنة على المنطقة القطبية الشمالية باسم "مشروع طريق الحرير" والذي وصفه بومبيو بأنه "محاولة صينية للاستثمار المكثف في البنى التحتية لجعل نفوذ الصين أكثر انتشاراً حول العالم"، وذلك خلال اجتماع هيلسنكي في 6 مايو الماضي. وبحسب تقديرات بومبيو، فإن الصين استثمرت نحو 90 مليار دولار في منطقة القطب المتجمد الشمالي بين 2012 و2017.

ورغم أن الصين لا يحدها جغرافياً المنطقة القطبية الشمالية، إلا أن المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، جينغ شوانغ، رد على بومبيو بالقول إن "المنطقة القطبية الشمالية لا تخص فقط الدول المتشاطئة معها، ولكنها قضية ذات اهتمام عالمي، والصين ستوجد هناك فيما يخص التحديات العالمية".

جدير بالذكر أن بكين "عضو مراقب" في "مجلس القطب الشمالي"، على عكس روسيا التي تعزز وجودها العسكري أكثر وبتوجيه مباشر من الكرملين، الذي خصص موازنات طائلة لتحقيق الغرض.

وخلال نوفمبر/ تشرين الثاني جاء رد حلف شمال الأطلسي على تعزيز وجود موسكو العسكري بمناورات ضخمة في أقصى شمالي النرويج بالقرب من الدائرة القطبية (Trident Juncture 18)، بمشاركة نحو 50 ألف جندي من 31 بلدا لمواجهة عدو مفترض، لم يتردد بعض القادة العسكريين بالتصريح دون كشف الأسماء لصحافة إسكندنافية تابعت المناورات من تروندهايم بأن "المقصود روسيا وإلا فمن يكون ذلك العدو المفترض؟"، وهي المناورات التي انتقدها الروس واعتبروها مستفزة.


ويرى مراقبون أن موسكو بدأت مؤخراً إجراء تجارب عسكرية عديدة، ضمن سباق تسلح غير معلن مع الناتو، ويمتد الأمر من سيبيريا إلى البلطيق، وتعزيز العسكرة في كاليننغراد، إلى القطب الشمالي، وهو ما يشير إليه الباحث في المركز الكندي للدراسات العسكرية والاستراتيجية، آدام ليونسس، الذي يقول إن موسكو استثمرت في مطارات جديدة وكاسحات الجليد، والقوات البرية، والقذائف وغيرها في منطقة القطب الشمالي، وبدأت في سبيل تعزيز وجودها إعادة بناء مرافق كثيرة على طول شريطها الساحلي في منطقة القطب الشمالي، وإنها تؤسس هذه الأيام لواء متخصصا بالمنطقة القطبية، إلى جانب تقوية الأسطول البحري ومقدراته القتالية.

وبحسب تقارير إعلامية متخصصة، فإن الأجهزة الاستخباراتية الغربية تضع تلك التحركات الروسية الغربية تحت المجهر بشكل دائم. 

وضمن هذا السياق الطويل والمتشعب، يبدو أن القلق الأميركي من تحركات قوى منافسة لها يدفعها اليوم، على لسان رئيسها دونالد ترامب، لأمركة الجزيرة بطرح شراءها على طريقة شراء ألاسكا، لتحويلها إلى أراضٍ أميركية في المنطقة القطبية الشمالية، وعينها على روسيا والصين والمتغيرات التي خلقتها التغيرات المناخية التي تتيح للدول التنافس والتصارع على الموارد الطبيعية في تلك المناطق، التي ظلت لفترة طويلة بعيدة عن يد الإنسان.

ورغم وجود قاعدة عسكرية أميركية في ثولا بغرينلاند فإن الطموحات الأميركية أبعد من مجرد وجود في قاعدة واحدة، وربما يأتي طرح شراء الجزيرة، وفقا لبعض المحللين، ومنهم هنريك برايتنباوك، محاولة لرفع سقف وجود أميركا في المنطقة القطبية من خلال الحصول على تنازلات دنماركية لتوسيع العسكرة الأميركية في غرينلاند، التي تجد معارضة اليسار، ضمن سباق تسلح ومصالح لم يعد خافياً على الساسة أو الناس العاديين في متابعة الضخ الصيني الاستثماري أو اظهار الروس لعضلاتهم العسكرية باستفزازات في أجواء الشمال.

وعلى وقع كل ذلك جاءت زيارة رئيسة وزراء الدنمارك ميتا فريدركسن إلى غرينلاند وتسريب خطط عن انتشار عسكري دنماركي أكبر في الجزيرة.

علاقة أميركا بغرينلاند

بعد عام على الاحتلال النازي للدنمارك (9 إبريل 1940)، وقع السفير الدنماركي في واشنطن، هنريك كاوفمان، في 9 إبريل 1941، على اتفاق يقضي بأن تتحمل الولايات المتحدة الأميركية الدفاع عن غرينلاند في حالة إقدام ألمانيا على محاولة احتلالها.

ولم يكن الأمر خدمة للدنماركيين الذين وجدوا أنفسهم حتى 1945 تحت الاحتلال النازي، بقدر ما كانت الجزيرة مهمة طيلة فترة الحرب الباردة؛ حيث أقاموا فيها قاعدة عسكرية ضخمة منذ 1951، كما هو عليه حال جزيرة بورنهولم الواقعة في بحر البلطيق، والأقرب إلى السويد والاتحاد السوفييتي في تلك الأوقات، ومن أهمها الانتشار الدفاعي بوجه تهديد صواريخ السوفييت وقواعد تنصت ومراقبة ضخمة على أرض غرينلاند.

وتبدو اليوم الأهمية أوسع وتتعلق بتصارع يتخطى ما كان في الحرب الباردة إلى مسألة نفوذ ومصالح يتشابك فيها التمدد والهيمنة العسكرية مع التجارية والبحث عن موارد طبيعية لاستغلالها بين الدول المتنافسة.

وبالنسبة للروس، فإن هيمنة واشنطن على غرينلاند ستعني تغيراً شاملاً في موازين القوى وقواعد اللعبة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى صراع ليس سهلاً في ظل تكشير أطراف كثيرة عن أنيابها العسكرية والاستخباراتية في محيط ما يشبه قارة لا يقطنها سوى عشرات الآلاف من الناس الذين لا يسألهم أحد عن مصيرهم وعن مستقبل بقائهم في ظل متغيرات مناخية وتنافس دولي على أراضٍ عاشوا عليها منذ ما قبل تأسيس أميركا.