3 سنوات من حكم السبسي: إشعال الحرائق وإطفاؤها

05 يناير 2018
برز السبسي على أنه رجل المفاجآت (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

مع بداية هذا العام، دخل الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، السنة الرابعة من ولايته، والتي تمكن فيها من تجاوز العديد من التحديات على الصعيدين الداخلي والخارجي، من دون أن يخلو أداؤه من إخفاقات، ليبقى السؤال الحقيقي اليوم يتعلق بما تبقى من ولاية السبسي التي تنتهي في 2019 وكيفية إدارته لسنتين من أصعب ما تبقى من عمر الانتقال الديمقراطي في تونس، باعتراف السبسي نفسه أنّ العام الحالي 2018، سيكون فارقاً وحاسماً لتونس. كما يبرز سؤال حول مرحلة ما بعد السبسي، وكيفية إدارة الصراعات القوية التي بدأت تظهر ملامحها من الآن، وقدرته على الوصول بتونس إلى انتخابات سلمية وحرة وشفافة في 2019، وإن كان سيترشح لها أم لا؟

منذ تسلم رئاسة الجمهورية من الرئيس السابق منصف المرزوقي، إثر أول انتخابات رئاسية بعد الثورة، وعلى امتداد السنوات الثلاث الماضية، كان الرئيس التونسي مركزاً للحركة السياسية في تونس، تدور معه وحوله الأحداث السياسية الرئيسية، بما قاد إلى الاستنتاج أن تونس لم تنجح حتى الآن في القطع مع النظام الرئاسي، رغم أن النظام برلماني في الظاهر، ورغم احتجاجات النواب على "سرقة سلطاتهم" عبر تحديد موازناتهم وظروف عملهم، بما جعلهم تابعين ومتفاعلين مع المبادرة السياسية، لا منتجين لها كما يُفترض. وتوجهت أصابع الاتهام إلى السبسي بمحاولة استعادة النظام الرئاسي وتركيز السلطات في يديه. وانطلق الجدل حول إمكانية إدخال تعديلات دستورية، وسط رفض واسع من أطراف سياسية مختلفة، برغم أنه ليس هناك مبادرة تشريعية ملموسة في هذا الاتجاه حتى الآن. لكن الرئيس التونسي تذمر أكثر من مرة من محدودية صلاحياته (الخارجية والدفاع والسهر على احترام الدستور) في مقابل تحميله مسؤولية تدهور الأوضاع التونسية، بما فيها الاقتصادية والاجتماعية.

لكن المتأمل في حقيقة اليوميات التونسية يدرك أن السبسي يمسك بكل خيوط اللعبة السياسية في البلاد، ويحركها في الاتجاه الذي يريد، فهو من يعيّن رئيس الحكومة ويختاره، وهو المتحكم في الأغلبية البرلمانية، وهو صاحب أهم المبادرات السياسية التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة. كما أنه من يسطّر المواقف الدبلوماسية التونسية، ويقرر في أهم الملفات الإقليمية والدولية المتعلقة بتونس، بالإضافة إلى أنه يرسم ملامح المشهد التونسي في المستقبل القريب، من دون أي مبالغة أو تضخيم في حجم هذه الصلاحيات التي انتزعها من الجميع، وبدون أن يعتدي قانونياً على الدستور. وبرز السبسي في تونس بأنه رجل المفاجآت، وجاءت أولها مباشرة إثر دخوله قصر قرطاج منذ ثلاث سنوات، عندما راوغ أحزاب جبهة الإنقاذ التي تحالفت معه لإسقاط "الترويكا"، وقرر أن يتحالف مع أكبر خصومه السياسيين، حركة النهضة، بسبب ما يسميه احترام نتائج صندوق الانتخابات ورغبة التونسيين، التي انتخبت حزبه نداء تونس في المرتبة الأولى والنهضة في المرتبة الثانية، وذلك رغم المعارضة الشديدة من الداخل والخارج. واستطاع السبسي أن يفرض خياره على الجميع ويفرض الأمر الواقع، برغم تداعيات ذلك المتواصلة إلى اليوم.

وبهذه الأغلبية البرلمانية بين حزبه والنهضة، والتي عززها بحزبي آفاق تونس  والاتحاد الوطني الحر، استطاع السبسي أن يمسك بكل الخيوط بين يديه، ويشكل حكومتي الحبيب الصيد الأولى والثانية، ثم حكومتي يوسف الشاهد الأولى والثانية أيضاً، بعدما فاجأ الجميع مرة أخرى بإطلاق ما يعرف بمبادرة وثيقة قرطاج، ويضم إليها منظمات النقابيين ورجال الأعمال والفلاحين وبعض أحزاب وشخصيات المعارضة، بعدما اتضح له فشل الحكومة الأولى في حلحلة الوضع الاقتصادي، وربما يصل مع الحكومة الثانية إلى نفس الاستنتاج. لكن منتقدي السبسي من ناحية، وتسريبات الكواليس التونسية من ناحية أخرى، تشير إلى أن الحقيقة هي أن الصيد والشاهد، يدفعان ضريبة ما يقولان إنه استقلالية الحكومة، ويراها السبسي ربما هروباً بالحكومة وشقاً لعصا الطاعة على قرطاج، وسعياً للعمل للحساب الخاص والتفكير في المستقبل الشخصي. ويذهب آخرون إلى الاعتقاد بأن خلاف الصيد والشاهد مع نجل الرئيس، حافظ قائد السبسي، مدير نداء تونس، يقف خلف بعثرة الأوراق الحكومية التونسية. ولعل الشاهد فهم ذلك، بشكل متأخر ربما، عندما أعلن منذ يومين أنه جاء إلى نداء تونس إيماناً بمشروع مؤسسه، أي الباجي قائد السبسي، مذكراً بأنه هو من جاء به إلى الحكومة، وأنه ليس هناك ما يعكر صفو العلاقة بين قرطاج والقصبة. وأكد أنه سيدعم ترشح السبسي لولاية رئاسية ثانية إذا ترشح طبعاً، بما يعني أنه ابن مشروع السبسي ووريثه السياسي الشرعي.


لكن الشق الذي لم يجب عليه الشاهد هو ماذا إذا لم يترشح الرئيس؟ وهل بدأ الاستعداد لهذه الفرضية؟ وعلى الرغم من أن السبسي يظهر وكأنه يحرك الأحداث، إلا أن الواقع يثبت أنه في الحقيقة كمن يجري هو أيضاً وراء الأحداث، ويحاول إطفاء الحرائق التي أشعلها بنفسه، وأكبرها حريق نداء تونس. وتعد أزمات نداء تونس من أكبر الأسباب التي تقف وراء تأزم الأوضاع السياسية في البلاد، إذ انقسم الحزب الكبير إلى خمسة أو ستة أحزاب، وساهم في تشظي المشهد السياسي في تونس، ما أثّر بشكل كبير على الأداء الحكومي والبرلماني ورفع من مخزون التنافس والمناكفات الحزبية، وهي في المحصلة صراعات جلية تهيئ لمرحلة ما بعد السبسي، بما يعني أن مؤسس الحزب فشل في إنقاذ حزبه والمحافظة على تماسكه، برغم كل محاولاته اللاحقة لترميم ما يمكن ترميمه.

وفي السياق، يعاني السبسي من أكبر اتهام وجه له يتمثل في محاولة توريث ابنه حافظ عبر تمكينه من السيطرة على الحزب أولاً. وعلى الرغم من أن هذا الأمر مستبعد جداً، لرفض التونسيين بشكل بات ونهائي وقاطع لكل الأشكال العائلية من ناحية، ولكون الابن لا يحظى بالإجماع حتى داخل حزبه، إلا أن هذه التهمة ظلت تلاحق الرئيس وتحرجه، برغم أنه يردد أنه لا يستطيع منع ابنه من ممارسة حق دستوري بالعمل السياسي وليس من سبب منطقي لذلك. وللحقيقة فإن نجل السبسي كان من بين مؤسسي نداء تونس، وكان ينشط سياسياً قبل انتخاب والده، لكنه استفاد من سلطة الأب المعنوية كمؤسس للحزب وأحدث فراغاً من حوله باستبعاد عدد من قياداته الكبرى، يحاول اليوم استرجاعها وإعادة ترميم الحزب أمام استحقاقات لم تعد تنتظر، خصوصاً بعد هزيمة ألمانيا المدوية، التي يتحمل جزءاً كبيراً من مسؤوليتها بحسب منتقديه من داخل الحزب. لكن هذا الحزب، الذي فاز بالأغلبية في البرلمان، قبل أن يفقدها لصالح النهضة، لم يعقد إلى الآن مؤتمره الأول، حتى تتبين حقيقة موازين القوى داخله، وتثبت جدارة وأحقية الابن بقيادته بعد الأب المؤسس، ويدفع بذلك كل هذه التهم التي يتداولها منتقدوه.

الجهود التي بذلها السبسي داخلياً ترافقت مع أخرى مرتبطة بالوضعين الإقليمي والعربي، بما في ذلك استدعاؤه أخيراً السفير الأميركي احتجاجاً على قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وقراره بمنع الطائرات الإماراتية من دخول تونس على خلفية القرار الإماراتي الذي قضى بمنع سفر التونسيات المتوجهات إلى الإمارات، أو عبرها إلى دول أخرى. كما يحسب للسبسي رفضه الخضوع لكل الضغوط في الملف السوري، وتحريكه للملف الليبي وحسمه لجهة رفض التدخل العسكري، وكذلك رفضه للضغوط بشأن حياد تونس من الأزمة الخليجية، برغم التكلفة الباهظة لهذه المواقف. ولكن الأمر لا يخلو من إخفاقات وملاحظات، أولها ما يتعلق بانضمام تونس إلى حلف شمال الأطلسي كحليف أساسي خارج الحلف، والموقف غير المفهوم من قضية اغتيال الشهيد محمد الزواري في تونس، برغم التأكد من قيام الكيان الصهيوني بالعملية، وعدم صياغة موقف تونسي قوي من هذا الاعتداء الجديد على حرمة البلاد.

وفيما تبقى أكبر نجاحات السبسي توفيقه في المحافظة على الاستقرار السياسي في البلاد وتجنيبها هزات كبيرة، بفضل توافقات سياسية متواصلة برغم هشاشتها، وما ينسب له بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، من نجاح المؤسسة العسكرية والأمنية في تحقيق انتصارات كاسحة على المجموعات الإرهابية، إلا أن الأمر لا يخلو من إخفاقات وملاحظات أولها يتعلق بالمجالين الاقتصادي والاجتماعي. وعلى الرغم من أن كون الأمر مسؤولية مباشرة للحكومة، إلا أن الجميع يعرف أن الرئيس يتحمل مسؤولية فشل الحكومات، لأنه صاحب القرار الأول في تشكيلها واختيار رؤسائها وبعض وزرائها. ولعل هذا ما يفسر محاولاته لتحريك المبادرات الاقتصادية، ولقاؤه بعدد من كبار رجال الأعمال في تونس وحثهم على التوجه للجهات (المناطق) الغاضبة. كما يؤخذ على السبسي جهوده لتمرير قانون المصالحة الاقتصادية، الذي لقي معارضة شرسة واتهاماً بالمصالحة مع الفساد، قبل أن يتقلص إلى مصالحة إدارية مع الموظفين الذين لم ينتفعوا مباشرة من أخطاء ارتكبوها. وسيكون الموضوع الاقتصادي أهم اختبار خلال هذا العام، ولن يسلم الرئيس من تداعياته، مع بروز ملامح الغضب الشعبي على الزيادات المتواترة في الأسعار، وانطلاق بعض الدعوات الحزبية للخروج إلى الشارع والاحتجاج على هذه الموازنة.