"الجنوب العربي"... ما هو الكيان المنشود لانفصاليي اليمن؟

13 يونيو 2017
تظاهرة مؤيدة للحراك الانفصالي في اليمن (صالح العبيدي/فرانس برس)
+ الخط -
لا يتفق المنادون بانفصال جنوب اليمن عن شماله، أو ما يُسمّى بـ"استعادة الدولة الجنوبية"، حول تصوّرهم لجنوب ما بعد الانفصال، بالضرورة. وتبرز معضلة "الهوية" كإحدى أبرز المعضلات المتعلقة بمشروع إقامة كيان دولة جديدة، على غرار ما كان قائماً قبل إعادة توحيد شطري اليمن، عام 1990. وتذكر معظم البيانات والتصريحات المتعلقة بتأسيس ما سُمي "المجلس الانتقالي الجنوبي"، أن مسمى "الجنوب العربي"، هو الحاضر بلا منافس، في بيانات المجلس الانتقالي وتصريحات قادته، باعتباره الاسم الذي يُطلق على كيان "الدولة الجنوبية" بعد انفصالها عن الشمال، لكن المسمى ذاته يثير اختلافات.

يعتبر اليمن من أقدم الهويات على مستوى المنطقة العربية كبلد مر بمراحل حضارية تعود إلى ألوف السنين، بين الحضور والغياب والتوحد والتفرق، ظلت معها مجموعة من الخصائص التي تحافظ على هوية شعبه، بين الحين والآخر. وباعتباره هويةً ضاربة في جذور التاريخ، فقد كان حاضراً منتصف القرن الماضي، وهي الفترة التي تأسست فيها دولتان شمالية وجنوبية حمل كل منهما مسمى اليمن واتحدتا عام 1990.

جنوباً، يعود مسمى "الجنوب العربي"، الذي ينسلخ به مناصروه من الهوية اليمنية، إلى السنوات الأخيرة من عمر الاستعمار البريطاني الذي استمر في جنوب اليمن لـ128 عاماً انتهت بالاستقلال عام 1967. وفي تلك المرحلة، كان جنوب اليمن مقسماً إلى العديد من الإمارات والمشيخات والسلطنات الضعيفة، دعمت بريطانيا توحيدها فيدرالياً، وأشارت بعض المراجع إلى أن أقدم ذكر لـ"الجنوب العربي" يعود إلى عام 1959، وفي الرابع من إبريل/ نيسان 1962، جرى الإعلان عن قيام "اتحاد الجنوب العربي"، المؤلف من 12 سلطنة ثم انضمت إليه لاحقاً في عام 1963 "ولاية عدن"، وخمس سلطنات أخرى في عام 1964.

في السنوات القليلة بين 1959 و1967 تلخص حضور "الجنوب العربي" كهوية كيان هش دعمت بريطانيا تأسيسه بالسنوات الأخيرة قبل رحيلها، وانهار بمجرد إعلان الاستقلال في 30 من نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، وقيام ما سُمي "جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية"، وجرى تغييرها لاحقاً إلى "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية"، كدولة مركزية أطاحت بمختلف السلطنات والمشيخات ووحّدت جنوب اليمن وشرقه، من الضالع إلى المهرة وحتى سقطرى. وفي عام 1990 اتحدت مع الشطر الشمالي للبلاد، وأُعلن عن قيام "الجمهورية اليمنية"، التي ضمّت الدولتين اللتين قامتا في عام 1962 شمالاً و1967 جنوباً.


كان مسمى "الجنوب العربي" في عهد الدولة الجنوبية لليمن من المحظورات، باعتباره يرمز إلى مرحلة تقسيم جنوب اليمن إلى حوالى 23 سلطنة وإمارة ومشيخة. اقتصر مسمى "الجنوب العربي" في الغالب على الأطراف والأسر الحاكمة التي سقطت بإقامة دولة جنوب اليمن عقب الاستقلال عام 1967، فيما الهوية اليمنية للجنوب من الأساسيات التي كان من النادر إنكارها.

بعد اتحاد الشطرين وما أعقبه من حرب أهلية عام 1994، تصاعدت تدريجياً مطالب الانفصال، ولم تعد مقتصرة على من كانوا يرفضون وحدة اليمن من أساسها قبل عام 1990، بل انضم إليهم جزء من جمهور الوحدة الذي رأى أن الجنوب خسر بوحدة البلاد. ولكن الدولتين اللتين توحدتا كانتا "جهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" (جنوباً)، و"الجمهورية العربية اليمنية" (شمالاً)، بالتالي فإن المطالبة بالانفصال تحت مسمى "الجنوب العربي"، لا تعود بالبلاد إلى ما قبل 1990، بل إلى ما قبل 1967.

على هامش خسائر الأطراف الجنوبية الثورية (التي حكمت بعد الاستقلال) وقبلها الأطراف الخاسرة بالاستقلال، برزت العديد من التعريفات والرؤى التي توجه سهامها إلى الوحدة. ومن بين الرؤى التي برزت اعتبار أن التسمية اليمنية لدولة الجنوب عقب الاستقلال ساهمت بالدخول في الوحدة، وبالتالي يطالب الانفصاليون المتشددون بانفصال جديد يحاول التنصل من الهوية اليمنية، باعتماد "الجنوب العربي" مسمى لأي دولة انفصالية، وهو الاسم المعتمد في بيانات وتصريحات المجلس الانتقالي الجنوبي.

ووفقاً لهذه القاعدة، يُطلق انفصاليو "الجنوب العربي" على الشماليين أنهم "يمنيون"، ولذلك جاء في البيان الصادر عن أول اجتماع عقده "المجلس الانتقالي" في عدن في 13 مايو/ أيار الماضي، أن "هيئة رئاسة المجلس تعبّر عن أسفها لمحاولات بعض القوى اليمنية (الشمالية) ممارسة ضغوطها ومحاولاتها للنيل من المجلس الانتقالي الجنوبي". وأكد "على التزام الهيئة الرئاسية للمجلس الانتقالي الجنوبي بأهداف شعب الجنوب العربي وثورته ومقاومته الوطنية المتمثلة في استكمال التحرير وتحقيق الاستقلال وبناء الدولة الجنوبية الفيدرالية الجديدة".



لا تكمن أزمة مسمى "الجنوب العربي" في كونه يعبّر عن كيان هش لم يصمد سوى سنوات وانهار قبل 50 عاماً، بل كذلك في كونها تسمية لا تعتبر جامعة للمحافظات الجنوبية والشرقية لليمن، إذ لم تكن محافظة حضرموت التي تمثل نحو ثلث مساحة البلاد والجزء الشرقي من الجنوب، ضمن هذا المكون. وفي مقابل ذلك، فإن العديد من الحضارم يعتبرون حضرموت هوية بحد ذاتها، باعتبارها تسمية وخصائص لها تاريخ على عكس هشاشة مسمى "الجنوب العربي".

من جهته، يقول الكاتب الجنوبي صلاح السقلدي، إنه لا يرى إشكالية كبيرة في حال تمت تسمية الأمور بمسمياتها الصحيحة، ولا يتفق مع كثير من التخوف والنفور الجنوبي من اسم اليمن كهوية أو انتماء جغرافي، خصوصاً الادّعاء القائل بأن الجنوب ليس يمنياً وإنه جنوب عربي، هوية وسياسة، أو القول إن التمسك باليمنية سيحول دون تحقيق الجنوب هدفه بالعودة إلى وضع ما قبل عام 1990.

ويتابع في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، مفنّداً المبررات التي يسردها بعض الجنوبيين المتطرفين ضد "الهوية اليمنية"، قائلاً إن "هذا الزعم والتخوّف لا أساس له إن أتحنا للعقل متسعاً للتفكير، ويكفي أن أقول لأصحاب هذا التخوف: هل حالَت تسمية شعب جنوب السودان بسودانيتهم دون أن تكون لهم دولة مستقلة؟".

ويرى السقلدي أن "اليمن الطبيعي هو مدلول جغرافي جهوي يمكن أن يضم أكثر من كيان سياسي وإداري، تقابله جهة الشام، وهذه حقيقة موجودة بذاكرة التاريخ وكتب الأديان السماوية، مثلما هناك جهة سياسية اسمها المغرب العربي. بالتالي فلا تضاد بين أن تقول أنا جنوبي أو أنا يمني، فالجنوبي هو بالأساس يمني الجغرافيا، ويمكن الاعتزاز بالانتماءين؛ يمني كجغرافيا وتاريخ، وجنوبي كهوية متميزة عن محيطها، وككيان إداري سياسي كان سائداً، ويسعى لاستعادة نفسه. تماماً هذا الاعتزاز يجب أن يكون مثلما يعتز اللبناني بلبنانيته وبشاميته معاً، وكذلك السوري والفلسطيني، ومثلما يعتز التونسي بتونسيته وبمغاربيته في آنٍ واحد، والمغربي بمغاربيته والجزائري بجزائريته ومغاربيته".

ويشير إلى أنه "ليس من الحكمة التحلل من أصول الشعوب وجذورها وانتماءاتها تحت ذريعة الحفاظ على الهوية والخصوصية الذاتية، أو التخوف من أن يكون ذلك عائقاً أمام طموحات المستقبل". ويتابع "صحيح أن الجنوب، أقصد جنوب اليمن، تعرّض بعد حرب 1994 إلى خيبة أمل كبيرة بالحلم الكبير الذي ظلّ يراوده بوطن كبير قوي موحد يؤسس لوحدة عربية كبرى، كانت هذه الخيبة بسبب سلطة ما بعد تلك الحرب التي قضت على ذلك الحلم وأحالته إلى كابوس مريع، إلا أن هذا لا يعني التنصّل من انتمائنا والشعور بالعار حياله. فاليمن ليس حدوداً سياسية مغلقة ولا هي سلطة سياسية مستبدة بل هو رحاب جغرافي كبير يعيش بكنفه مزيج من البشر متعدد الهويات والأفكار قد يحتويهم كيان إداري سياسي واحد أو أكثر".


المساهمون