في خطوة غير مسبوقة في العمل السياسي السوري المعارض، اتهم رئيس هيئة التفاوض التابعة للمعارضة السورية، نصر الحريري، مدير دائرة الشؤون العربية في وزارة الخارجية السعودية، سعيد سويعد، بالتدخل المباشر و"الصارخ" في آليات عمل الهيئة، بعد دعوته إلى إجراء انتخابات جديدة لها، والاستعاضة عن الأعضاء المستقلين بكتلة جديدة كان تم اختيارهم في وقت سابق. وكان سويعد قد وجّه رسالة إلى مكونات وشخصيات من الهيئة لـ"استئناف اجتماعاتها إلكترونياً، بمشاركة المستقلين الجدد، لسدّ الفراغ الرئاسي وانتخاب رئيس لها"، في خطوة يربطها البعض بمحاولات سعودية لتغيير الهيئة الحالية لأسباب سياسية.
وأشار الحريري في رسالة تمّ البدء بتداولها يوم الخميس الماضي، ووُصفت بـ"الداخلية" بعدما تمّ توجيهها إلى أعضاء الهيئة، إلى أنّ ما قام به المسؤول السعودي "يخرج عن كل العهود والمواثيق، وعن نصّ استضافة خادم الحرمين الشريفين للسوريين وهيئتهم التفاوضية". وقال إنّ "سعيد (في إشارة إلى مدير دائرة الشؤون العربية في وزارة الخارجية السعودية) يتدخّل بشكل صارخ في شؤون الهيئة، خلافاً لتاريخ المملكة، وسياسة معالي وزير الخارجية والوزير ثامر السبهان المسؤول عن الملف السوري، كما تمّ إبلاغنا بذلك". وذكر الحريري جملة من الأسباب التي تحول دون قبول الرسالة التي وجهها سويعد ودعوته بخصوص الانتخابات، منها أنّ "هذا الإجراء ينسف جوهر الرسالة المشتركة التي أبلغنا بها عن المجموعة المصغرة في احترام الهيئة واستقلالية قرارها"، كما أنّ الرسالة "تخرج عن الأساس المرجعي وشرعية ما تمّ الاتفاق عليه في مؤتمر الرياض 2، وتحاول فرض أعضاء جدد في الهيئة بدون تصويت".
وأوضح الحريري أنّ الرسالة "تتجاهل النظام الداخلي للهيئة والمقرّ من قبل أعضائها، والذي ينصّ على عدم قبول استبدال أي من أعضائها بدون إجراء التصويت القانوني"، معتبراً أنّ الرسالة "تمثّل امتهاناً لكرامة السوريين ومحاولة فرض الوصاية عليهم، وإظهار أنهم غير قادرين على إدارة شؤونهم، وهذا بطبيعة الحال سيؤكّد فيما لو تم دعاية النظام وحلفائه في ارتهان المعارضة لجهات خارجية". كما أشار الحريري إلى أنّ الرسالة "تتحدث عن انتخابات وفراغ رئاسي"، مشدداً على أنّ "السوريين وحدهم من يحددون ذلك".
وتابع: "لا يوجد أحد في الهيئة يرفض إجراء الانتخابات، بل هي موجودة كنقطة أولى في جدول الأعمال، وما الإشاعات التي تسمع هنا وهناك عن قضية الانتخابات إلا محاولات هروب إلى الأمام وابتعاد عن الحقيقة". واعتبر الحريري أنّ هذا التصرف "يهدد وحدة هيئة التفاوض، وينذر بتقويض كل الجهود التي بذلت في سبيل التوصل إلى حلّ سياسي". وحذّر من أنّ ذلك "يفتح المجال أمام العديد من الدول والأطراف في المستقبل للتدخل في الهيئة وقراراتها، بما يجعلها رهينة التجاذبات والمصالح الإقليمية والدولية، وهذا ما لا يجب السماح به". وأشار إلى أنّ الرسالة "تخالف قرار هيئة التفاوض في اجتماعها الذي تم بالتنسيق مع الأشقاء في المملكة والأصدقاء من المجتمع الدولي، والذي أبقى الرئاسة الحالية حتى يتم انتخاب هيئة رئاسية جديدة بأسرع وقت ممكن".
وتؤكد رسالة الحريري إلى أعضاء الهيئة سعي الرياض إلى ترتيب أوراق المعارضة السورية بما يتناسب والسياسة السعودية، التي شهدت في الآونة الأخيرة تراجعاً ملحوظاً في ثوابتها اتجاه القضية السورية، وخصوصاً لجهة الإصرار على استبعاد رئيس النظام بشار الأسد وأركان حكمه من السلطة.
ورفضت شخصيات عدة لها ثقل في المعارضة السورية التعليق على رسالة الحريري لأعضاء الهيئة، ولكن مصدراً رفيع المستوى في الأخيرة فضّل عدم ذكر اسمه، اعتبر في حديث مع "العربي الجديد" أنّ "من سرّب هذه الرسالة الداخلية، يعتقد أنه وجد صيداً ثميناً للتخريب"، مضيفاً: "هذا تسريب مغرض من طرف له ثأر لدى السعودية". ونفى المصدر وجود تدخل سعودي رسمي في شؤون هيئة التفاوض، وقال: "إذا حاول موظّف التدخل فذلك لا يعني أنّ المملكة تتدخل". وطالب المصدر من سرّب الرسالة إلى وسائل الإعلام بالتعامل مع القضية السورية بـ"كل أمانة وحرص"، وفق تعبيره.
وكانت هيئة التفاوض السورية قد انبثقت عن مؤتمر "الرياض 1" الذي عقد في العاصمة السعودية أواخر عام 2015، وذلك من أجل خوض المفاوضات مع النظام السوري تحت إشراف أممي، بوفد موحّد من المعارضة. وتشكّلت الهيئة من "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة"، و"منصة القاهرة" التي شاركت في المؤتمر في خانة المستقلين، وهيئة التنسيق الوطني (معارضة الداخل) وبعض الفصائل المسلحة، إضافة إلى شخصيات مستقلة. وترأس الهيئة في دورتها الأولى رياض حجاب الذي كان رئيساً لمجلس الوزراء في حكومة النظام قبل انشقاقه في عام 2012. واختار المشاركون 34 شخصية ليكونوا في الهيئة العليا للمفاوضات. وتوزّع أعضاء الهيئة بواقع 11 شخصاً من الفصائل العسكرية، و9 من الائتلاف الوطني، و8 من الشخصيات المستقلة، و6 من هيئة التنسيق. وشكلت الهيئة وفد المعارضة إلى الجولة التفاوضية مع النظام في إبريل/ نيسان من عام 2016، ولكن سرعان ما أعلنت انسحابها احتجاجاً على استمرار القصف والقتل في سورية.
ولم يكن التدخل السعودي أو العربي عموماً طافياً على السطح في ذلك الوقت، إذ كانت الهيئة متماسكة لجهة رفض أي تدخل إقليمي في آليات عملها، وقد شاركت في العديد من المؤتمرات الخاصة بالقضية السورية، وقدمت رؤية شاملة للحل السياسي. ورفضت الهيئة التنازل عن ثوابت الثورة السورية، ولا سيما مسألة إجراء تغيير عميق في بنية السلطة في سورية، وفي مقدمة ذلك استبعاد بشار الأسد من السلطة.
ولكن الهيئة لم تبق طويلاً بعيدة عن التدخل العربي والإقليمي، والذي أكثر ما تجلى في مؤتمر "الرياض 2"، الذي دعا إليه السعوديون في 22 و23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، وهو ما دفع أبرز أعضاء هيئة التفاوض، وفي مقدمتهم رياض حجاب ورياض نعسان آغا، إلى الاستقالة. وفي مؤتمر الرياض الثاني، اختارت المعارضة السورية أعضاء النسخة الجديدة من الهيئة العليا للمفاوضات، وتضم في المجموع خمسين عضواً. ومن بين هؤلاء عشرة من أعضاء الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وستة أعضاء من هيئة التنسيق الوطنية، وعشرة ممثلين للفصائل العسكرية، وأربعة من "منصة القاهرة"، كما أدخلت منصة موسكو للمرة الأولى إلى الهيئة من خلال أربعة أعضاء، تحت ذريعة "توسيع قاعدة التمثيل والقرار"، إضافة إلى 16 عضواً من المستقلين.
وجدّدت الهيئة التي ترأسها نصر الحريري في النسخة الثانية التزامها بحلّ سياسي يقوم على قرارات الشرعية الدولية من خلال إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها تهيئة بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية. وشاركت الهيئة منذ ذاك الحين بعدة جولات من مفاوضات جنيف، ولكنها رفضت المشاركة في مؤتمر سوتشي الذي دعا إليه الروس مطلع عام 2018.
وتتهم الهيئة في دورتها الثانية بالرضوخ لضغوط عربية وإقليمية من خلال إعطاء المسألة الدستورية الأولوية على حساب الانتقال السياسي وفق قرارات الشرعية الدولية. وكانت مصادر مطلعة قد ذكرت أنّ الرياض استبعدت قيادة الهيئة بنسختها الأولى بسبب رفضها أي تنازل تحت ذريعة "الواقعية السياسية". ولم يتوقف التدخل السعودي في شؤون الهيئة عند هذا الحدّ، إذ استضافت الرياض اجتماعات لشخصيات "مستقلة" سورية معارضة في أواخر العام الماضي، اختاروا ممثلين مستقلين جدداً في الهيئة، وهو ما اعترض عليه نصر الحريري، معتبراً أنّ ما جرى لا يستند إلى أي إجراء قانوني.
وتلاحق المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري اتهامات بـ"التبعية" من قبل الشارع السوري المعارض، الذي يبدو غير راضٍ بالمطلق عن الأداء السياسي للمعارضة الذي يأتي عادة كرجع صدى للدول التي تحتضن أطراف هذه المعارضة. وألقت العلاقات المضطربة بين دول الإقليم بظلّها على الأداء السياسي للمعارضة السورية، ويرجّح أن يكون الموقف السعودي الأخير قد أتى في سياق العلاقات المتأزمة مع الجانب التركي، الذي يعدّ الحليف الأبرز للمعارضة السورية، سياسياً وعسكرياً. وفي هذا السياق، رأى الباحث السياسي شادي العبد الله، في تصريح لـ "العربي الجديد"، أنّ السعودية "ربما تريد استبدال القيادة الحالية لهيئة التفاوض السورية، والمحسوبة بقدر ما على تركيا، بهيئة جديدة تناسب احتمالات المرحلة المقبلة المفتوحة على تسويات سياسية"، وفق قوله.