لم تهدأ مدينة البصرة، جنوب العراق، منذ شهر يوليو/ تموز الماضي، إذ تستمر الاحتجاجات الشعبية فيها التي يقودها ناشطون غالبيتهم من الطلاب وأصحاب الشهادات الجامعية وفلاحون وعاطلون عن العمل، فضلاً عن متضررين من الأوضاع المعيشية المتدنية والمتأثرين بغياب المياه الصالحة للشرب. وقد زاد عدم حلّ أي من المشكلات التي يعاني منها المواطنون هناك، من توتر الأوضاع في المدينة، ولا سيما خلال اليومين الماضيين، إذ وصلت إلى محاولة اقتحام مبنى ديوان المحافظة بالإضافة إلى مكتب المحافظ أسعد العيداني، السبت الماضي. وبالتزامن مع تفاقم الغضب الشعبي في جنوب البلاد، تزداد الأزمات السياسية بين نواب البصرة في البرلمان العراقي وبين المجلس المحلي في المدينة، من جهة، وبين المحافظ أسعد العيداني و"تيار الحكمة" الذي يتطلّع لنيل المنصب، من جهة أخرى، لترمي كل جهة من هؤلاء كرة الفشل بإدارة الأزمة في المدينة بملعب الجهة الأخرى، فيما أخذ أهالي البصرة هذه المستجدات بعين الاعتبار وأضافوا إلى مطالبهم مطالب أخرى متعلقة بهذا الشق.
واتهم المحافظ أسعد العيداني، "تيار الحكمة" الذي يتزعمه عمار الحكيم، ووزير الشباب والرياضة السابق، عبد الحسين عبطان، بالتحرّك للإطاحة به، وهو "ما يعطّل عملية تجهيز البصرة بما يحتاجه الأهالي"، بحسبه. وقال العيداني، في حوار تلفزيوني مع قناة محلية إنّ "عبد الحسين عبطان وشخصيات من حزبه (تيار الحكمة) يعملون على الإطاحة بي، ويتحركون للضغط على باقي الأحزاب مثل الدعوة وبدر لاستبدالي"، مضيفاً أنّ "هذه الجهات لا يهمها حرق البصرة، وإنما الحصول على مكاسب سياسية".
أما لجهة تعاطي البرلمان العراقي مع المجلس المحلي في المدينة، فقد وجّه رئيس مجلس النواب، محمد الحلبوسي، أخيراً، كتاباً رسمياً إلى المستشار القانوني ولجنة الأقاليم واللجنة القانونية النيابية في البرلمان، يتضمّن مخالفات مجلس البصرة، وخصوصاً في ما يتعلّق بملف إدارة أزمة الأمطار في المدينة وجباية عائدات المنافذ الحدودية. وجاء في الكتاب أنّ "ثلث أعضاء مجلس البصرة فقدوا شروط العضوية"، متهماً المجلس "بالإخلال الجسيم بالمهام والأعمال الموكلة إليه، ومخالفة الدستور والقوانين".
مع ذلك، احتشد المتظاهرون خلال اليومين الماضيين قرب "ديوان المحافظة"، وتطورت الاحتجاجات إلى تطويق الأبنية الحكومية بإطارات السيارات المشتعلة مع محاولات لاقتحامها وإحراقها، بعد أن "فشلت المطالبات السلمية بتحصيل الحقوق"، بحسب بعض المتظاهرين.
وفي السياق، أوضح مسؤول حكومي عراقي في بغداد، في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، أنّ مشكلة البصرة لا تتعلّق بالحكومة في بغداد فقط، بل بأنّ حكومتها المحلية أيضاً تعاني من مشاكل وصراع كتل وأحزاب. وكشف المسؤول أن القوات الأمنية تلقّت تعليمات بمنع التعرّض لأي متظاهر، كون سقوط ضحايا في هذه التظاهرات يعني تصعيدا أكبر في المحافظة، وهو ما لا تريده بغداد. وأشار المسؤول إلى قرب نقل مخصصات مالية عاجلة للمحافظة من أجل العمل على مشاريع خدمية، كما تم استثناء قرارات اتخذتها حكومة حيدر العبادي خلال فترة تصريف الأعمال، تصبّ في صالح البصرة، من قرار البرلمان الأخير الذي ألغى كل ما صدر عن حكومة العبادي بعد إجراء الانتخابات البرلمانية العامة بالبلاد منتصف العام الحالي.
إلى ذلك، قال الناشط وليد واثق، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "البصرة تعيش اليوم أسوأ أيامها بعد أن صارت المياه الحلوة والصالحة للشرب نادرة، فيما رفعت معامل المياه المعدنية أسعار عبوات المياه، علماً بأنّ غالبية هذه المعامل مملوكة بالأصل لأحزاب سياسية"، معترفاً بأنّ "ما يحدث اليوم يعدّ خروجاً عن سلمية التظاهرات، وذلك لأنّ المحتجين من شباب المدينة أصبحوا على قناعة تامة بأنّ تحقيق مطالبهم لن يتم إلا عن طريق إثبات القوة والوجود". وأشار واثق إلى أنّ "هناك توجّهاً حالياً نحو إعلان ثورة، تتدخّل فيها العشائر بشكل حقيقي، وتستمرّ لحين تنفيذ مطالب المحتجين، مما قد يؤدي إلى حدوث مشاكل أمنية".
وتابع الناشط أنّ "أحياء المعقل والحكيمية والهارثة وجبيلة بالمدينة، تشهد تبديلاً بين الجهات الماسكة للأرض فيها، ففي النهار تكون القوات الأمنية حاضرة ومسيطرة على الوضع، أمّا خلال فترة الليل، فتكون من حصة المتظاهرين، فيما يكتفي رجال الشرطة وجنود الجيش بحماية المستشفيات والمباني الحكومية"، مشيراً إلى أنّ "المطالب لا تزال منذ شهر يوليو الماضي نفسها لم تتغير، ولكن أضيف إليها محاربة الفساد وعدم القبول بمحافظ جديد يجيء عبر المحاصصة الحزبية". وبحسب واثق، فإنّ "الأوضاع في المدينة توترت أكثر، بعد إعلان مديرية ماء البصرة عدم قدرتها على شمول جميع مناطق المحافظة بخطة توفير المياه الصالحة للشرب، وفشل مشروع المراشنة (الذي يهدف إلى معالجة شحّ المياه وتأمين ضخّ عالٍ للأحياء والأزقة السكنية وتقليل حالات الهدر)، الأمر الذي دفع أهالي البراضعية وأبو الخصيب ومناطق أخرى، إلى النزول إلى الشارع".
من جهته، قال الشيخ العشائري في البصرة، فايز السعد، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "غالبية عشائر المدينة تساند المتظاهرين وفق القانون، في مطالبتهم بحياة كريمة، وكان من المفترض على الحكومة أن تعالج المشاكل في المدينة بعد أول احتجاج شعبي، لكن المسؤولين لا يشعرون بما يشعر به المواطنون". وأوضح أنّ "بعض الأحزاب السياسية في البصرة، تعتقد أن المحافظة ملك لها، وفق المحاصصة، وبالتالي تتعامل مع المدينة وأهلها على أنهم ورقة مالية لا أكثر. أمّا أحزاب بغداد، فتحاول بطريقة أو بأخرى السيطرة على البصرة والتسلّط عليها، لما فيها من خيرات اقتصادية، والأمر نفسه ينطبق على المجلس المحلي في المدينة، الذي لا يهتم بما يجري، لأن اعضاءه هم أصلاً أجزاء من أحزاب سياسية، وهمومهم لا تتعدى الحفاظ على مناصبهم وإبعاد من يهددهم".
وأضاف السعد أنّ "الحكومة المركزية في بغداد حوّلت إلى خزينة البصرة حوالي 500 مليار دينار عراقي (نحو 420 مليون دولار أميركي)، لتغطية مشاريع الإعمار المتوقفة والمتأخرة والمتلكئة، لكن هذه الأموال تحوّلت إلى نقمة على أهالي البصرة، لأنها أوجدت صراعاً بين الأحزاب للاستيلاء عليها والتلاعب بالعقود والاستثمارات داخل المدينة".
من جانبه، أشار النائب عن محافظة البصرة، عدي عوّاد، إلى أنّ "الوضع في البصرة خطير جداً وترك المدينة بدون معالجة يعني أنّ التظاهرات ستتطور خلال الأيام المقبلة"، موضحاً في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "المتظاهرين لا يزالون على مطالبهم الأولية، المتعلقة بإيجاد حلول لظاهرة البطالة في المدينة وتوفير المياه الصالحة للشرب وتحسين ما يتعلق بالخدمات، فضلاً عن إنهاء الصراع السياسي على منصب المحافظ". ولفت عوّاد إلى أنّ "المشهد السياسي تطوّر في المدينة إلى حدّ قيام جهات سياسية بدفع عناصرها بين المتظاهرين لغرض تسييس الاحتجاجات وخطف منصب المحافظ لجهة سياسية معينة".
في المقابل، استنكر عضو المجلس المحلي في البصرة، غانم حميد، التهم التي توجّه للمجلس، قائلاً إنّ "المتظاهرين الذين يتهمونا بالتقصير، لا يعرفون صلاحيات كل سلطة في المحافظة، وعلى الأغلب تظاهراتهم مدفوعة من جهات سياسية"، مشيراً في اتصالٍ مع "العربي الجديد"، إلى أنّ "كثيراً من المسؤولين في بغداد، لا يعرفون ما يحدث في البصرة، وهناك من المتظاهرين ممن لا يميزون أن عملنا في المجلس هو تشريعي ورقابي وليس تنفيذيا، والتنفيذ يقع على عاتق المحافظ أسعد العيداني ونائبيه والدوائر العاملة".
واعتبر حميد أنّ "هناك استهدافاً سياسياً واضحاً لمجلس محافظة البصرة، وما يُثار من تعليقات من نواب المحافظة في البرلمان، مثل حلّ مجلس المحافظة، أمر يخالف القانون الذي يشير إلى أنّ الحكومة هي لامركزية في المحافظات، وليست مركزية"، موضحاً أنّ "التظاهرات التي تطالب بإسقاط المجلس هي مسيّسة، وبعض النواب يوجهون المتظاهرين نحو الدفع بهذا الأمر للضغط على البرلمان، وستكون لنا جلسة خاصة للبحث في التوجّه السياسي ضدّ عملنا وسنصل إلى مخرجات سنعرضها على البرلمان للدفاع عن عمل المحافظة، وتوضيح التضارب الحاصل بين السلطات في المدينة".