تقدر مصر والسودان المراحل المتبقية من التفاوض قبل أن يتحقق اتفاق كامل على جميع قواعد الملء والتشغيل لسد النهضة الإثيوبي بنحو 10 في المائة، قياساً بما تم إنجازه من قبل، خلال المفاوضات التي امتدت في العاصمة الأميركية واشنطن على مدار أربعة أشهر تقريباً، قبل أن تقاطعها أديس أبابا في مرحلتها الأخيرة نهاية فبراير/شباط الماضي، وتوقع القاهرة منفردة على الصياغة التي أعدتها وزارة الخزانة الأميركية للاتفاق، بمساعدة فنية من البنك الدولي.
غير أن صيغة قرار استئناف المفاوضات التي توافقت عليها الدول الثلاث، بوساطة سودانية، أمس الأول، تكاد تفرغ هذا الاقتراب من معناه، حيث تم تكليف وزراء الري والمياه الثلاثة بالاجتماع مجدداً، وهذه المرة عن بعد، لبحث خطوات استئناف المفاوضات. ويسمح هذا الأمر بسهولة باستهلاك مزيد من الوقت، وإهداء فرصة جديدة للإثيوبيين للاقتراب رويداً من موعد الملء الأول للخزان الذي حددوه في يوليو/تموز المقبل، وهم منخرطون، أمام العالم، في مفاوضات فنية جديدة أو مستأنفة، ما يخفف الضغوط والمطالب الدولية التي يتعرضون لها منذ أسابيع، لحل الأزمة بالطرق الودية، وذلك منذ إرسال مصر خطاباً إلى مجلس الأمن ألمحت فيه إلى ما يمكن أن يترتب على انسداد المسار التفاوضي من توتر في المنطقة.
مصادر دبلوماسية مصرية قالت، لـ"العربي الجديد"، إن نجاح الوساطة السودانية في إعادة إثيوبيا للتفاوض لا يعتبر، بحد ذاته، إنجازاً "بل هو تقدم يمكن البناء عليه، لأن هدفه الأساسي هو العودة للتفاوض وليس الوصول المباشر لحلول فنية عاجلة". وأوضحت أن مصر كانت ترغب في أن تكون العودة مشروطة باستئناف الخطوة الأخيرة على المستوى السياسي، أي البدء من نفس النقطة التي توقفت عندها مفاوضات واشنطن، وهي استعراض الصياغات النهائية للاتفاق توطئة للتوقيع مباشرة، لكن الخرطوم أقنعت القاهرة بضرورة المضي قدماً لهذه المرحلة الفنية الجديدة، التي لا تبدو مهيأة لمزيد من النقاشات حول قواعد التشغيل التي تم الاتفاق على معظمها بالفعل، ولكنها ستقتصر على مناقشة كميات المياه التي ستسمح إثيوبيا بتمريرها أثناء فترات الملء.
وبالتالي فإن تطور المفاوضات الفنية هو الذي سيحدد شكل الخطوات المقبلة بدخول مديري المخابرات ووزراء الخارجية، وربما زعماء الدول الثلاث. حيث ذكرت المصادر أنه لم يتم الاتفاق بعد على الخطوات المقبلة، حتى لا تستبق الأطراف الأحداث ويتكرر ما حدث في واشنطن. كما سيحدد تطور المفاوضات وحجم الاتفاق والاختلاف، مدى حاجة الدول الثلاث لدخول طرف رابع، سواء كان الخارجية أو الخزانة الأميركيتين، أو البنك الدولي، أو أي طرف آخر. وأضافت المصادر أن الوساطة السودانية لم تكن لتنجح مرحلياً إلا بدعم غير معلن من الاتحاد الأوروبي والصين لمسألة العودة لمسار التفاوض، موضحة أن "جميع العواصم والمنظمات الدولية التي تواصل معها وزير الخارجية المصري سامح شكري في الأسابيع الأخيرة، خصوصاً الدول الأعضاء بمجلس الأمن، قد تواصلوا بصورة أو بأخرى مع أديس أبابا، وطالبوا بالعودة للمفاوضات". وأوضحت أن عواصم عدة أبدت عدم رضاها عن التشدد الإثيوبي في قضية حساسة وقابلة للتفاوض في آن كهذه، بما في ذلك بكين التي تشارك نخبة من شركاتها الكبرى في مجال إنتاج الطاقة الكهرومائية في إنشاء السد، فضلاً عن وجود مصالح اقتصادية لها من الأنشطة التنموية التي ستنشأ بعد السد.
وذكرت المصادر أن موقف بكين تحديداً كان أكثر تفاعلاً مع المطالب المصرية "من بعض العواصم العربية والإقليمية، التي كانت قد انخرطت في جهود وساطة منذ عدة أشهر، وكذلك من العواصم الأوروبية التي كانت تقترح عدة بدائل لاتفاقات الملء والتشغيل في الغرف المغلقة". واعتبرت أن ما حققته الوساطة السودانية ترجم ما حدث في أروقة الأمم المتحدة خلال ثلاثة أسابيع من مجهودات دبلوماسية بذلتها مصر وإثيوبيا في مسارين متقابلين، لإقناع سكرتارية الأمم المتحدة والدول الأعضاء بالجمعية العامة، بموقف كل منهما. وركزت مصر على مسألة مخالفة إثيوبيا لاتفاق المبادئ الموقع في مارس/آذار 2015، بإصرارها على الملء الأول منفردة دون الاتفاق على قواعد الملء والتشغيل كاملة، وأنها تحاول التنصل من التزاماتها السابقة بطلب إبرام اتفاق منفرد حول الملء الأول. وفي المقابل كانت إثيوبيا تركز على أن جميع الطلبات المصرية تهدف إلى تعطيل بناء السد، الذي وصلت نسبة استكماله حتى الآن إلى 73 في المائة.
وحول الخطاب الإثيوبي، الصادر أمس الأول والمغاير بعض الشيء في صيغته للخطابين السوداني والمصري حول استئناف التفاوض، قالت المصادر إن "الخارجية المصرية على وعي بهذا الاختلاف، ولن تلقي له بالاً في خطاباتها الإعلامية"، حيث لم تشر أديس أبابا من قريب أو بعيد إلى مفاوضات واشنطن كقاعدة انطلاق للمفاوضات المقبلة، في حين تحدثت الدولتان العربيتان عن البناء على ما تم إنجازه في واشنطن. ورجحت المصادر أن يعقد وزراء المياه والري، بصحبة مساعدين لهم، اجتماعين على الأقل عن بعد خلال هذا الأسبوع، موضحة أن التعليمات الصادرة من الرئاسة المصرية لوزير الري محمد عبد العاطي ومدير المخابرات العامة عباس كامل تركز على ضرورة التركيز على النقاط الخلافية مباشرة، وعدم إعطاء الفرصة للإثيوبيين للعودة للنقاشات الموسعة حول نقاط تم تجاوزها سلفاً، والحرص على الآجال القصيرة بين الاجتماعات.
وشددت المصادر على أن موقف القاهرة ما زال ثابتاً، عند اقتراح ضمان تمرير 37 مليار متر مكعب من المياه لمصر في أوقات الملء والجفاف، كرقم وسط بين ما تطالب به إثيوبيا وهو 32 مليار وما كانت تطالب به مصر وهو 40 مليار متر مكعب، على أن يُترك الرقم الخاص بأوقات عدم الملء والرخاء لآلية التنسيق بين الدول الثلاث، نافية أن يكون هناك مقترح مطروح بتقليل كمية المياه أكثر من ذلك في الوقت الحالي. ويزعم الإثيوبيون أن تمرير 37 مليار متر مكعب في أوقات الجفاف سيجبرهم على الصرف المباشر من بحيرة سد النهضة، ولن يُمكنهم من الحفاظ على منسوبها عند 595 متراً لتضمن بذلك التوليد المستديم وغير المنقطع من الكهرباء لمدة 7 سنوات على الأقل.
ومن بين النقاط الخلافية بين مصر من جهة والسودان وإثيوبيا من جهة أخرى، رؤيتهما بضرورة إبقاء منسوب المياه في بحيرة سد النهضة أعلى من 595 متراً فوق سطح البحر، لتستمر قدرته على إنتاج الكهرباء. وترى القاهرة أن هذا الأمر غير عادل إذا انخفض مقياس المياه في بحيرة ناصر عن 165 أو 170 متراً، وكانت واشنطن ترى معقولية ووجاهة الطلب المصري في هذا الصدد، بينما الطرفان الآخران لا يرغبان في الربط بين مؤشرات القياس في سد النهضة والسد العالي. وخلال المفاوضات ستتمسك القاهرة بمحدد له أولوية عاجلة، هو رفض الملء الأول السريع للسد، تفادياً لتقليص حصة مصر من المياه لأدنى مستوى لها، ربما في تاريخها، وهو ما يجعل مصر تتمسك بإجراء هذه العملية خلال فترة أطول وبحسب اختلاف مستوى فيضان النيل من عام لعام، الأمر الذي ترفضه أديس أبابا تماماً منذ بداية التفاوض، باعتبار أن إطالة أمد هذه العملية سيؤثر بالسلب على مستقبل المشروع كاملاً، فضلاً عما سيسببه من إخلال بالتعاقدات المبرمة مع الشركاء الأجانب.
وسيحرم الملء السريع مصر من فوائض الحصص أو بواقي الفيضان بشكل شبه كامل خلال عامين، والتي على أهميتها، فإن كلاً من إثيوبيا والسودان تبالغان في تقدير كميتها، إذ تعتبران أن مصر تستفيد منها بشكل كبير، وكانتا تقولان خلال المفاوضات إن مصر يصلها حالياً أكثر من 80 مليار متر مكعب، أي أكثر من الحصة المنصوص عليها في اتفاقية 1959 مع السودان بواقع 30 ملياراً. ويجادل الطرفان أن ملء بحيرة سد النهضة ستخفض الحصة المصرية الفعلية إلى رقم يتراوح بين 52 و55 مليار متر مكعب، شاملة بواقي الفيضان، مقابل ارتفاع نصيب الخرطوم إلى ما يتراوح بين 18 و20 مليار متر مكعب، بدلا من 8 مليارات كان منصوصاً عليها في اتفاقية 1959.
وأرسلت مصر مطلع الشهر الحالي خطاباً لمجلس الأمن بلهجة لا تخلو من الرجاء، لاتخاذ ما يلزم لاستئناف مفاوضات ملء وتشغيل السد. وتضمن وصف الخطر الاستراتيجي الذي قد تشهده المنطقة جراء الممارسات الإثيوبية بأنه "تطور محتمل"، وهو التحرك الذي يستحيل أن يصاحبه، بحسب مراقبين، تحضير لتحرك عسكري مصري سيكون بالتأكيد غير مرغوب من القوى العظمى ولا مرحباً به في المنظومة الأممية. وفي خطابها لمجلس الأمن كشفت القاهرة أن أديس أبابا عرضت أن يتم الاتفاق فقط بين الدول الثلاث على قواعد الملء والتشغيل لأول عامين فقط، وهو ما اعترضت عليه مصر والسودان، ليس فقط لأنه يتجاهل تنظيم فترة الملء كاملة، ويتناقض مع القواعد التي سبق الاتفاق عليها، ولكن أيضاً لأنه يتناقض مع اتفاق المبادئ الذي يؤكد عدم الملء قبل التوصل إلى اتفاق شامل.
وقدمت إثيوبيا رداً على الخطاب المصري لمجلس الأمن، تضمن التشديد على أن الملء الأول لن يضر بدولتي المصب نظراً لأنه يتزامن مع الفيضان، وأنه لا ينتهك اتفاق المبادئ الموقع بين الدول الثلاث في مارس/آذار 2015 وأنه يمكن فصل قواعد الملء والتشغيل في السنوات التالية عن فترة الملء الأول. وتزعم أديس أبابا أن القاهرة ليس لها الحق في أن تتدخل في كيفية إدارة السد، إلا بعد الوصول لمستوى التخزين الذي يؤثر فعلياً على حصتها من المياه، علماً بأن جميع توربينات السد ستكون جاهزة للعمل عند اكتمال تخزين كمية 18.4 مليار متر مكعب، ما سيؤدي إلى تناقص منسوب المياه في بحيرة ناصر جنوب السدّ العالي بشكل كبير، خصوصاً إذا انخفض منسوب الفيضان في العامين المقبلين، ليقل عن مستوى 170 متراً، ما يعني خسارة 12 ألف فدان من الأراضي القابلة للزراعة في الدلتا والصعيد كمرحلة أولى، من إجمالي 200 ألف فدان تتوقع وزارة الموارد المائية والري المصرية خروجها نتيجة المدة الإجمالية للملء.