الشرعية... كابوس يطارد السيسي بعد 6 سنوات من الانقلاب

03 يوليو 2019
تظاهرة في فيينا عقب وفاة مرسي الشهر الماضي(أسكين كياغان/الأناضول)
+ الخط -
حصلت وفاة الرئيس المصري المعزول محمد مرسي خلال محاكمته قبل أيام من الذكرى السادسة للانقلاب العسكري عليه في الثالث من يوليو/ تموز 2013، لتعمّق من مأزق النظام المصري الحالي بقيادة عبد الفتاح السيسي. فوفاة الرئيس المنتخب الذي قُدّم لمحاكمة استثنائية في ثوب مدني على جرائم لم يرتكبها، وعاش سنوات من الآلام البدنية والنفسية في محبسه الانفرادي، كانت بمثابة صفعة قاسية يتلقاها النظام دولياً ومحلياً، للتأكيد على افتقاره للحدّ الأدنى من الإنسانية والعدالة والنزاهة في الخصومة. أحدثت وفاة مرسي دوياً في أوساط النظام ومعارضيه على حدّ سواء، فأفسدت خططاً وعقّدت أوضاعاً. وعلى الرغم من أنها لم تشعل مباشرة نار انتفاضة غضب شعبية ميدانية، إلا أنها أظهرت حجم التعاطف الشعبي الكبير على وسائل التواصل الاجتماعي مع ظروف وفاة الرئيس المعزول، وكذلك الغضب من الإساءة المتكررة إليه إعلامياً، وتعمّد إهانته بصورة ممنهجة ظهرت بوضوح على صفحات الجرائد التي نشرت عقب الوفاة مهوّنة من الحدث، ومحاولة الاستهانة برئيس جمهورية كان الوحيد الذي انتخبه الشعب المصري في استحقاق ديمقراطي نزيه تريد الأجهزة الاستخباراتية والأمنية حالياً محوه.

ومن ملامح هذه الإساءات التي باتت تتكرّر بصورة شبه يومية على مسامع المصريين، ترويج إعلاميي النظام بإيعاز من الاستخبارات العامة، لمزاعم أنّ وفاة مرسي تسقط أي حقّ لمناهضي الانقلاب ولجماعة "الإخوان المسلمين" في المطالبة بالعودة للسلطة أو إلغاء ما ترتب على الانقلاب من تغيّرات سياسية ودستورية.

واللافت أنّ هذه المزاعم تعترف ضمنياً بأنّ مرسي كان يملك شرعية الرئاسة والسلطة المنتخبة حتى وفاته، على الرغم من أنّ إعلام النظام وأجهزته التشريعية هي التي كانت ترفض دائماً طوال السنوات الست الماضية الخوض في سؤال الشرعية الذي كان يطرحه معارضو النظام من الخارج أحياناً، تارة بتشكيل برلمان مواز، وتارة أخرى بالحديث عن حكومة منفى. وهي الفعاليات التي أثبتت الأحداث ضعف تأثيرها وعدم جديتها، إذ لم تحظ بالاهتمام الكافي من الحكومات الغربية، ولم يكترث لها الشعب المصري الذي ما زال ينتظر تحركاً مؤثراً داخل وطنه وليس خارجه.

مرسي أم الثورة أم كلاهما؟

يبدو أنّ نظام السيسي يحاول بترويج هذه المزاعم التلاعب بعقول الشريحة والدوائر ذاتها التي ربما كانت ترى أنّ مسألة الشرعية في مصر محصورة بين مرسي والسيسي، من دون النظر للقضية من منظور أوسع يتمثّل في أنّ مرسي ليس مجرّد رئيس منتخب انقلب عليه وزير دفاعه، بل هو ممثل لتجربة ديمقراطية ثورية بشتى اختلافات أطيافها وتياراتها، حتى ولو حاولت بعض التيارات التنصّل من الحقائق التاريخية والزعم بأنّ مرسي كان رئيساً للإخوان فقط، مبررين بذلك المشاركة في تظاهرات 30 يونيو/ حزيران التي مهّدت للانقلاب، التي يرى البعض أنها كانت "خاطئة" أو "خطيئة"، في مقابل فئة أخرى تتمسّك بأنها كانت "ضرورة"، سواء لتقويم النظام القائم آنذاك أو لسحب الشرعية منه.

وهنا يتجدّد الجدل في ذكرى الانقلاب كل عام حول ما إذا كان من الممكن الخروج من تجربة التظاهر ضدّ مرسي في 30 يونيو بنتيجة مغايرة لما حدث في 3 يوليو/ تموز. ونظراً لحالة الاستقطاب الحادة التي يغذّيها إعلام النظام بين التيارات السياسية المعارضة، وشيطنته لكل من يتواصل مع جماعة "الإخوان" أو يعترف بحق الإسلام السياسي في الحياة، وانتهاء بجهوده في تعميق الفرقة بين المعارضة الإسلامية والعلمانية، بوصف كل من يتحرّك ضده بأنه متعاون مع "جماعة الإخوان الإرهابية"، فإنّ المشهد السياسي المصري لا يزال متجمداً عند نقطة اليأس من دون آفاق لمدّ جسور التعاون والمضي قدماً لغد جديد.

ويهدف النظام من خلال لهجته الأخيرة بتصوير أنّ الرئيس المنتخب الراحل كان الطرف الآخر، والوحيد، في معادلة الحكم، بنفسه وبشخصه، إلى خدمة أغراضه بمحو كل أثر إيجابي لثورة يناير. واستمرار مرسي على قيد الحياة، كان بمثابة الكابوس للنظام، فمجرّد نشر صوره في قفص الاتهام يذكّر بما قامت عليه سياسة السيسي من تصفية حسابات وقمع وترهيب وإلغاء للآخر. ومن هنا اكتسب مرسي رمزيته التاريخية، التي تضاعفت وتعززت بوفاته الدرامية التي كان النظام يتوقعها، ولكنه لم يتوقّع حدوثها أمام منصة محاكمته.

وتعكس هذه المفارقة أنّ وفاة مرسي حصلت أثناء محاكمته كما خلقت فرصة للنظام للمتاجرة بفكرة "انقضاء الشرعية"، كذلك كشفت عجز الأخير، إذ لا يمكنه ادعاء ظروف كاذبة للوفاة كالانتحار أو أنها ناجمة عن أسباب طبيعية مفاجئة.

خطة استهداف متكاملة

تتكامل فكرة توهّم النظام انقضاء الشرعية بوفاة مرسي، مع العديد من الإجراءات والخطوات التي اتخذها في السنوات الأخيرة للقضاء على جميع رموز المشهد السياسي المصري قبل انقلاب يوليو، بما في ذلك ممثلي نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك والأجهزة المناوئة للسيسي. فالمنافس المباشر لمرسي في انتخابات عام 2012، وهو رئيس الوزراء الأسبق أحمد شفيق، ألقي القبض عليه وتمّ ترحيله من الإمارات إلى مصر في ديسمبر/ كانون الأول عام 2017، وتحريك دعاوى قضائية ضده، وما زال في حكم الممنوع من مغادرة منزله، وكل تحركاته تحت الحراسة وبإذن الاستخبارات، ولم يعد يظهر إلا في مناسبات محدودة كالأفراح والمآتم، بعدما كان يمثّل صداعاً للسيسي، ومصدر قلق لناحية إمكانية عودته للمعترك السياسي.

أمّا المرشح الرئاسي صاحب المركز الثالث في الانتخابات نفسها وهو حمدين صباحي، فبعدما سمح السيسي بترشحه ليكون بمثابة "منافس ديكور" في انتخابات 2014، تمّ منعه من ممارسة العمل العام، وقمع أدواته الإعلامية والحركية، وحرمانه من التواصل مع الجماهير. وانتهى الأمر إلى القبض على عدد من أنصاره، وعلى رأسهم المتحدث السابق باسمه حسام مؤنس، بتهمة مشاركة الإخوان أهدافهم "الإرهابية" والتحريض على التظاهر في القضية الأخيرة المعروفة إعلامياً بـ"خطة الأمل".

ويعيش المنافس الرئاسي صاحب المركز الرابع في انتخابات 2012، ظروفاً تبدو أخطر مما كان يعيشها مرسي قبل وفاته، فرئيس حزب "مصر القوية" عبد المنعم أبو الفتوح المعروف بإصابته بأمراض مزمنة عدة، يمكث في حبس انفرادي في ظروف صعبة على ذمة التحقيق معه في قضية وهمية التفاصيل تمّ تحريكها ضده بعد انتقاده العلني للسيسي العام الماضي في مقابلة تلفزيونية مع شبكة "التلفزيون العربي" في لندن.

وحتى المرشح صاحب المركز الخامس في انتخابات "مرسي" وهو وزير الخارجية الأسبق عمرو موسى، فقد ابتعد بالإكراه عن المشهد، وتمّ تهميشه بعد استخدامه كرئيس للجنة الخمسين لإعداد دستور 2014 الذي وصفه السيسي بدستور "النوايا الحسنة" قبل أن ينقلب عليه بتعديلات إبريل/ نيسان 2019.

البطش ذاته طاول النشطاء والمنظرين الثوريين في فترة 2011-2012 بالحبس وتلفيق القضايا الوهمية للعديدن، ومنهم علاء عبد الفتاح وأحمد دومة وشادي الغزالي حرب ومحمد القصاص وأحمد ماهر ومحمد عادل وانتهاء بزياد العليمي. فضلاً عن فرض منع من الكتابة في مصر على الكتاب والصحافيين سيف الدين عبد الفتاح وفهمي هويدي ووائل قنديل وعمرو حمزاوي والعشرات غيرهم، والتغييب الجسدي لآخرين، أبرزهم النائب السابق مصطفى النجار، بالإضافة إلى حملات مصادرة الأموال والمنع من السفر والإدراج على قائمة الإرهاب ضدّ الحقوقيين الإسلاميين واليساريين.

ويعكس هذا الاستهداف الممنهج رغبة الأجهزة السيادية في قطع دابر الحديث عن شرعية سياسية ترتبت على ثورة ديمقراطية حقيقية، ومنع أي طرف غير مدعوم من الجيش من ادعاء ملكية هذا الإرث أو الانتماء إليه أو التحدث باسمه. ومن ثمّ كان لازماً الانتقام من كل أطراف البيئة السياسية التي أُفرزت عام حكم مرسي الذي يمثّل صداعاً حتى اللحظة في رؤوس جلاديه المتهمين بالتسبب عمداً في وفاته بالإهمال والتقصير والغبن.

ولطالما قالت مصادر أمنية ومراقبون سياسيون لـ"العربي الجديد"، في أوقات زمنية مختلفة، إنّ "ترك قيادات الإخوان في السجون حتى الوفاة، هو قرار استراتيجي لنظام السيسي"، إلا أنه ما زال من المبكر الحكم على مدى نجاح أجهزة النظام في التعامل مع تبعات وفاة مرسي تحديداً، ارتباطاً بالتشديدات الأمنية الأخيرة التي طاولت السجون بمنع الزيارات عن السجناء وتخفيض أوقات التريّض. كما طاولت المجال العام بفتح قضايا جديدة لاستهداف النشطاء من خلفيات سياسية شتى لمجرد التفكير في منافسة أحزاب الاستخبارات في الانتخابات النيابية المقبلة. وكلها تغييرات طرأت بعد وفاة مرسي واستعداداً لذكرى الانقلاب السادسة.

صحيح أنّ مرسي ليس أول قيادي إخواني رفيع المستوى يموت في ظروف صحية وإنسانية قمعية داخل السجن، وسبقه في ذلك كُثُر، أبرزهم المرشد السابق لجماعة الإخوان محمد مهدي عاكف، في سبتمبر/ أيلول 2017، لكن وضع الرئيس المعزول يبقى مختلفاً. فهو الرجل الذي ما زالت أجهزة النظام غارقة منذ 6 سنوات في محاولة انتزاع شرعيته وتغيير تاريخه بالقوة وبالخطاب الدعائي الموحّد، وبتقارير الاتهام والأحكام القضائية، بحثاً عن تأصيل الانقضاض على السلطة انقلاباً على الديمقراطية وعلى ثورة يناير.

المساهمون